الفيزياء والفلك > فيزياء
هل تتحكم فيزياء الكم بالبيولوجيا؟
مُنذ أنْ أجرى العالم غريغور يوهان مندل (1822-1884 Gregor Johann Mendel) تجاربه الشهيرة على نبات البازلاء، الذي وضع على إثرها قواعد الوراثة، ورافقهُ إطلاق العالم تشارلز داروين (Charles Robert Darwin 1809-1882) نظرية التّطور، تركزتْ دراسةُ عِلم الأحياء على علمِ النبات والحيوان، بعيدًا عن الدراسة العميقة لفهم التّفاعلات الجزيئية ومُعالجة المعلومات العضوية، لكن علم الأحياء الحديث وعلم الطب والصيدلة، مع دراسة الأجسام ذات التعقيد المتزايد، كان لا بُد مِنْ التعمق في دراسة الجزيئات وسلوكها في الجسيمات من أبسطها الى أكثرها تعقيدًا، وبما أنْ فيزياء الكم تركز أساسًا على الظواهر المجهرية مثل الفوتونات والإلكترونات وغيرها، فيمكن القول أنه منذُ الأيام الأولى لفيزياء الكم كان تأثيرها حاضرًا في علم الأحياء.
إذًا هل يمكننا القول أن هناك علاقة بدأت تتشكل بين فيزياء الكم وعالمنا الحيوي؟
وهل يمكن تحقيق الظواهر الكمومية الحقيقية باستخدام الجزيئات الحيوية؟
وهل للظواهر الكموميّة أي صلة بعلم النبات والحيوان؟
كل هذه الأسئلة وغيرها لم يبقَ دون إجابة وقتًا طويلً، ولم يعد تكهناتٍ مفتوحة.
نقرأ معًا في هذا المقال الإجابات، ونلخص بعض الظواهر الكمومية البيولوجية النموذجية، ونقدم لمحة عامة عن النظريات والتجارب الحديثة في التفاعل بين فيزياء الكم وعلم الأحياء.
عادة ما يُركز وصف العمليات الكمية في الأنظمة البيولوجية على الجزيئات المتخصصة، مثل الكلوروفيل، التي هي جزء من بيئة بروتينية أكبر، لكن وصف ديناميكيات هذه الأنظمة يواجه عديدًا من المشكلات المفتوحة، التي تخضع للدراسة، وذلك بسبب تصرف الجزيئات بطريقة ميكانيكية كمومية في سياق بيئتها الكلاسيكية (البروتينية).
إيروين شرودنغر (1887-1961 Erwin Schrödinger) المشهور بمعادلته الموجية لميكانيكا الكم، غامر بالتعمق في دراسة البيولوجيا الكمية في سلسلة محاضراته (ما هي الحياة) الصادرة عام (1944)، متوقعًا الأساس الجزيئي للوراثة البشرية، الذي أكد لاحقًا أنه جزيء DNA، معتمدًا على أن فيزياء الكم تعمل على تشكيل جميع الجزيئات وتحديد التعرف الجزيئي وعمل البروتينات والحمض النووي داخل الأجسام الحية، وغيرها من التجارب لعلماء نجحوا في تفسير عديد من الظواهر، مثل مقاومة الفوتون في السلاسل البروتينية وإزالة التموضع الكمي في قياس تداخل المادة، وتنفيذ خوارزميات الكم الأولية في النيوكليوتيدات (1,2).
من المواضيع الأكثر أهمية في هذا السياق هو التوجه المغناطيسي للطيور المهاجرة، وهو من أكثر التجارب التي استطاعت تقريب فيزياء الكم إلى البيولوجيا، لذا تعالوا نوضح هذا التقارب الذي فسر وأجاب عن أسئلة عديدة.
تعد هجرة الطيور سلوكًا معروفًا في مملكة الحيوانات، إذ ظلَّ السؤال عن كيف تستطيع هذه الطيور تحديد مسارها يشغل العلماء فترة معينة من الزمن، واستطاع عديد من العلماء تفسير هذا السلوك بعدة نظريات، وكانت الإجابات متعددة تشمل مكان الشمس في السماء أو أماكن النجوم أو الذاكرة القوية أو الرائحة، وغيرها من التفسيرات، ولكن كل هذه النتائج كانت بعد تجارب أُجريت على مجموعة من الطيور، إلى حينها لم يكن موضوع للتوجه المغناطيسي للطيور المهاجرة أصداء أو إثباتات.
في عام (1972) استطاع عالم الطيور وولفغانغ فيلتشكو (1938 Wolfgang Wiltschko) وزوجته العالمة (Roswitha Wiltschko) إجراء تجربة على طائر (European Robin) من خلال تعريضه لمجال مغناطيسي خارجي ومن ثم عكسه وكانت النتيجة تأثر الطائر بزاوية الارتفاع للمجال المغناطيسي أو ما يعرف ب(Angle of Elevation) إذ يغادر الطائر من مكان قمة المجال المغناطيسي مثل السويد إلى أدنى نقطة للمجال المغناطيسي مثل إسبانيا، ثم طرح مجموعة من العلماء في جامعة كاليفورنيا نظرية تفسر سلوك طائر (European Robin) مُثبتين أنَّ الطريقة الفعلية التي يستخدمها الطائر لمعرفة الاتجاهات هي التشابك الكمي (Quantum Entanglement) واكتشفوا ذلك من خلال دراسة الجزيئات الصغيرة أو ما يعرف ب(Subatomic)، واستنتاج خاصية دوران الجزيئات حول نفسها (spin) ويكون ذلك من خلال آلية الزوج الجذري بين الجسيمات (the radical pair mechanism)، والمسؤول عن ذلك كله هو الإلكترونان المتموضعان داخل البروتين الموجود في شبكية عين الطائر (Crypto chrome)؛ فبعد دخول الفوتونات (الضوء) إلى العين تصطدم بالإلكترونين وتدفعهما من حلقة البروتين الموجودين عليها خارجًا إلى حلقة مجاورة، ويحدث ذلك متزامنًا مع حدوث التشابك الكمي بين هذين الإلكترونين؛ بالتالي يؤثر المجال المغناطيسي الأرضي على دوران الإلكترونين ويعكسهما عدة مرات مع تحرك الطائر، ويتغير المجال بتغير حركة الطائر، ومع التغير المستمر للعمليات الكيمائية التي يتعرض لها البروتين بسبب ما يحدث، يُرسل إشارات للمخ يستطيع الطّائر من خلالها استشعار شكل المجال المغناطيسي ويتوجه إلى الأماكن التي يشعر فيها بانخفاض هذه التغيرات إلى أن تختفي تمامًا عند اقترابه من خط الاستواء حيث تنعدم الزاوية، وبهذه الطريقة يستطيع الطائر تحديد وجهته وطريق سير هجرته (3,4).
يمكننا القول أن ميكانيكا الكم تُعد أساس جميع العمليات الكيميائية، وبالتالي أساس الجزيئات الفردية في الحيوانات وتحديدًا الأجسام البشرية، إذ لم يقتصر تأثير فيزياء الكم على الإنسان والحيوان فقط بل نجد أن ميكانيكا الكم لها تأثير في عملية التركيب الضوئي للنباتات، من خلال تنظيم شبكات نقل الطاقة، وأيضًا في الهياكل الذرية داخل الورقة، إذ يمكن للتأثيرات الكمومية مثل ازدواجية الموجة والجسيم والتشابك الكمي أن تلعب دورًا مهمًّا في هذه العملية، عن طريق جعل عديد من التفاعلات الكيميائية ممكنة، وتركيز الطاقة على مراكز التفاعل الكيميائي، وتحويل ضوء الشمس إلى كتلة حيوية، فبعد سقوط الفوتونات على الورقة تمتص جزيئات الكلوروفيل طاقة الفوتون وتمررها إلى جزء الخلية الذي يشكل مركز التفاعل ليقوم بإنتاج السكر، أي تعمل طاقة الفوتون كموجة في تجميع الضوء تمامًا مثل نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية التي تصف التفاعلات بين الفوتونات والمادة من حيث جميع المسارات الممكنة لطاقة الفوتون في تفاعله مع المادة (2).
طالما عُد كل من فيزياء الكم وعلم الأحياء تخصصين غير مرتبطين، إذ يصفان الطبيعة على المستوى الجزيئي الحي وغير الحي معًا، وعلى مر العصور السابقة نجحت علوم الأحياء في تقديم تفسيرات أكثر دقة للظواهر العيانية، والتي بُنيت على فهم أفضل للهياكل والآليات الجزيئية مُناقشةً معايير أفضل لبيولوجيا الكم، ودراسة القيود المفروضة على هذه النظرية، والآن أُثبتت التأثيرات الكمومية تجريبيًّا في بعض الأنظمة البيولوجية.
المصادر: