كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

عن الغاية والوسيلة مراجعة الدوامة لسارتر

في بلادٍ مألوفةٍ لا تختلف عن سابقتها من حكم الطغاة فيهم، وفي جوٍ من الحرب بين الدخان وأزيز الرصاص في إغلاق المحلات، سيُظهر لنا الكاتب والفيلسوف والروائي الفرنسي جون بول سارتر-Jean-Paul Sartre 

(21 يونيو 1905 - 15 أبريل 1980 ) صاحب رواية الغثيان ومسرحية الغرفة المغلقة الثورة بكامل معالمها حتى توشك على الخروج من النص بين يدي القارئ جليّةً وواضحة، فيستطيع من مكانه أن يلتمسها ولنبدأ مع مسرحية "الدوامة"  وبتقدم الثوار الذين ينحون نحو "جان آغيرا" ذاك الحاكم الطاغية لبلادهم وعند اقترابهم منه ووصولهم إلى مكان إقامته سيكون على "ريباز" مسؤولية إبلاغه بأنهم قد وصلوا فما إن يفعل حتى تكون صدمته بأمر "جان" له في أن يوقف إطلاق النار من جهته وعلى الرغم من عدم اقتناع ريباز بالسبب الذي أبانه جان ما كان عليه غير أن ينفذ حتى يدخل الثوار القصر الحكومي فيأمر جان من قادته أن يجتمعوا في مكتبه ويحدد بكل هدوء عقب هزيمته الخائن منهم والوفي له مع وجود هامش للخطأ سببان حين دخول الثوار عليه وأخذ أحد أصدقائه داريو صفهم تحت قيادة فرانسوا وسوزان اللذان يقودان جان نحو محاكمته.

 وعند بداية المحاكمة سنكون قد عرفنا عبر فرانسوا الذي يحكي لنا كيف أنه وقبل خمسة عشر عاماً قد كان "جان" ثائراً مثله ومع نجاح ثورته قد استلم مقاليد الحكم فلم يحقق خلال فترته من الديمقراطية والاشتراكية شيئاً.

وقد اتُهمَ بتسليم حقول البترول للأجانب إضافةً إلى القتل والديكتاتورية وغيرها كثير، وذلك في حضور جان الذي رفض اختيار شخصّ ليدافع عنه ممّا دفعهم إلى طلب ذلك من "ماتر" وزير العدل عنده والذي بدوره طلب شهادة أحد أصدقائه "داريو" حينما سُئِل عن الآلية التي واجه بها المجاعة فأعادنا الكاتب بالماضي للحظة التي اتفق فيها جان مع "داريو" و "لوسيان" بتطوير الزراعة عقب إدخال الآلة إليها والتي أثبتت ما توقعه صديقاه فشلها وانقلاب الفلاحين عليه مما دفعه إلى حرق أراضيهم وقراهم ونفي قسمٍ منهم مضيفين إليه تهمة الحقد الشخصي بعد أن طالت النيران قريته بسبب ذراعه المبتورة مشيرةً إلى هذه الدعوى سوزان عشيقة جان السابقة، وحالما أوشكت المحكمة على أخذ قرارها تسأل عن ما كان يفعل جان في أثناء حرق جنوده لتلك القرى ليخرج خادمه فيجيب بما يرضي سوزان ويتابع مع سرده عن كل تفاصيل حياة "جان" وما إن همَّ ليكمل حتى باغتت القاعة أصوات انفجارات قادمة من تقدم "كتيبة قلعة كيروب" لاستعادة القصر ورغم ذلك لم يأبه فرانسوا لما يحدث فأشار إلى متابعة سير المحاكمة ومع استجواب وزير العدل للخادم مرة أخرى كان الخادم قد غير أقواله عنما أسلف لا بل أنه قد ناقضها تماماً هكذا حتى تختفي حدّة الأصوات مشيرة لهزيمة الكتيبة فينقلب الوزير على جان، ويعود للدفاع عنه مرغماً من قبل فرانسوا ولكن يثنيه عن ذلك داريو فيكون مستاءً من تشعب المحكمة فيما لا طائل منه متجاهلين الأمور الأساسية، فيطلب من جان الدفاع عن نفسه مُعرباً عن عدم كُرههِ له وعدم رغبته في أن يراه مقتولاً تلك الرغبة التي تدفعه للخروج من المحكمة نحو هيلين تلك الوحيدة التي أحبت جان محاولاً إقناعها للقدوم علَّه يحدث شيء يغير مجرى المحاكمة، ويجبر جان على الدفاع عن نفسه ولكن هيلين ترفض ذلك مقدمةً حججها، فنعود إلى مشهد المحاكمة حيث يستلم زمامها مهندسٌ زراعي يدعى "مانكو" بملف يشرح فيه الأخطار التي قدمها لجان من محاولة تصنيع الزراعة وفي أثناء حديثه يُبرم جان حوراً  مستقلاً له مع الحارسان اللذان حوله يوضح عبره اللامبالاة من المحكمة ويصرّح فيه عن استعداده للموت.

 

 

أما في الجانب المقابل وقبل وداعهما يرمي داريو لهيلن بالكلمة الأخيرة والتي بها يحثّها على القدوم إلى الشهادة فتمسك بمعطفها من على الفور لتذهب وإيّاه نحو المحكمة المستمرة مع سوزان، والتي تحكي قصة هجر جان لها بعد استئثاره بالحكم بادئة بذلك منذ لحظة تعارفها على جان ولوسيان عن طريق هيلين في أيام الإضراب مروراً بزواج هيلين ولوسيان بالثورة وأحداثها متهمةً إيّاه بقتل لوسيان "بلغا" الذي كان ينافسه على قيادة الثورة، وما أن تصرّح باتهاماتها حتى تدخل هيلين قاعة المحكمة وتدحض شتى أقوالها بعد تعريفها لنفسها بوصفها زوجة لوسيان الذي مات في منفاه بعد أن أوصله جان إليه كل ذلك وُضِعَ في قالب يقدمه لنا "سارتر" يمزج فيه الدراما بالواقع بالإثارة التي تحرك القارئ شوقاً لمعرفة إلى كفة من ستؤول الغلبة ومن هو صاحب الحق في هذا كله. 

تتابع هيلين دفاعها بينما تبقى سوزان على حالها في تلفيق التهم حتى يتدخل جان للمرة الأولى منذ بدء المحكمة مُنكراً بذلك أي علاقة له بهيلين خارج إطار العمل والصداقة، لتكمل هيلين بعد مداخلته شهادتها فنذهب إلى مشاهد من الإضراب، ونشاهد عبرها أحداث الثورة منذ تأسيسها حتى وصولها إلى هذا الحدِّ موضحةً طبيعة علاقة جان ب "لوسيان" وبين الرجوع بالشهادة نحو الماضي والحديث إلى المحكمة، سيقاطع بقية الثوار المحكمة في محاولة منهم أن ينالوا من جان حتى يتصدى لهم فرانسوا ومن ثم يتدخل داريو فيوقفهم لتعود المحاكمة إلى سيرها إنما يقرر هنا جان الدفاع عن نفسه بنفسه مستغنياً عن وزير عدله لتكمل هيلين فتحكي تفاصيل فترة حكم جان بكونها مساعدة له وصولاً إلى موت لوسيان حيث تنتهي شهادتها وما أن يهم جان للحديث حتى يأتي خبر تعين فرانسوا رئيساً للحكومة الموقتة فيؤجل جلسة المحاكمة.

ثم يذهب نحو قصر جان ليقابل الوفود القادمة، ويرجع إلى المحكمة متابعاً الجلسة التي سيدافع فيها جان عن نفسه معبراً عن عدم ندمه عن أي شيء عبر مونولوج متقطع بين ذكريات الماضي ومحكمة الحاضر، ومبرراً فيه ما حدث معزيّاً ذلك إلى الحب وإلى دوامة العنف التي لن تنتهي، والتي ما إن يعلق أحدٌ فيها حتى تبتلعه فيدور مرتطماً بالكره والقرارات الخاطئة التي لا مناص منها.

وأما جان بطل مسرحيتنا فكان أحد أولئك الأشخاص الذين غرقوا هناك دون أن يبقى في حوزته أي أمل للخلاص غير الصمود الذي سينهار، ولن يستطيع أحدٌ التمييز في هذه الدوامة بين القاتل والضحية وعليه تنتهي المحكمة بحكم الموت على جان ليشير كاتبنا مع تقلد فرانسوا للحكم وبالتالي بِدئ دوامة جديدة.

المصدر:

جان بول سارتر. الدوامة. ت: هاشم الحسيني. بيروت: دار مكتبة الحياة؛ 1975. ص 168.