كتاب > روايات ومقالات

دمشق يا بسمة الحزن وماذا تكونُ غيرَ ذلك؟

منذ السطر الأول في هذه الرواية تستطيع أن تعرف أنك أمام مشهد حقيقي له لون وصوت ورائحة نقلته الأديبة السورية ألفة الإدلبي (1912-2007) بنبض الفتاة المراهقة سلمى – صوت الراوي- ولكن بنضج الأديبة التي بلغت عقدها السابع عند كتابة هذه الرواية، فالكاتبة التي وُلِدت في أوائل القرن العشرين عاصرت الفترة الزمنية التي تناولتها، فمن أكبر حدث سياسي في المنطقة برمتها، لأصغر تفصيل اجتماعي في عائلة دمشقية آنذاك. 

وفي إطار المنزل الدمشقي المفعم بالتفاصيل، وعائلة نمطية من النصف الأول في القرن العشرين، وبلد بالكاد نالَ استقلاله من الاحتلال الفرنسي تبدأ أحداث الرواية، بمشهدٍ صادم، ليجعل من الفتاة سلمى شاهدةً على حادثة لن تفلت من ذاكرتها أبداً، ولن يكون في عونها على فهم ما حدث، سوى كراس أزرق! تركته لها عمتها صبرية قبيل انتحارها.

لا شك أن يكون اسم البطلة صبرية، فربما في ذلك إشارة لما ستمر به في محطات حياتها، فكل ما قامت به هو الصبر، ومقاومات من حين لآخر لا تشبه بحقيقتها إلا تنهدات الشخص المغلوب على أمره، كيف لا؟ وهي فتاة تعيش تحت قهرين، الاحتلال من جهة، والكبت المجتمعي من جهة أخرى!، وتصبو لحلم واحد فقط ألا وهو الحرية؛ الانعتاق من كل ما يقيد الأحلام، أن تشعر بقيمتها مثل أيِّ فتاة لها في وطنها ومجتمعها وعائلتها مثل أي شخص آخر! لها صوتٌ وإرادةٌ ورغبة، لها يد ترفعها لتندد بكل ما يجب أن يُسقِط الاحتلال كان أم وصاية، أو حتى عادات بالية.

" لقد انهزمت شر هزيمة حين انتصرت على نفسي. استطعت أخيراً أن أقضي على الثورة الجامحة التي كانت تغلي في أعماقي دائماً أبداً كما يغلي الماء في المرجل لقد أطفأتها بالكبت الطويل بترويض النفس عن الصبر والرضا بالواقع مهما كان مراً"

وفي حين أنها كانت حالمة مثقفة فقد تجرعت ألمَ ازدواجية المعايير، فما يحق لغيرها لا يحق لها، وما يطلب منها ليس كما يطلب من غيرها، فما كان أمامها سوى أن تُودِع أحلامها أمانةً إلى وسادتها حيث المكان الوحيد الذي تستطيع أن تحلم فيه، وتقابل مسؤوليتها الاجتماعية تجاه أمها المريضة وأبيها المفلوج، فكلٌ بحسب توقيته، وتنتظر بصبر لحظة الخلاص، لحظة الانتقام، لحظة الحرية!

تتوالى الضربات في حياة صبرية متزامنة مع الأحداث التصاعدية في سورية، فبين مجتمع منغلق وبلد محتل وحركات ثقافية وثورة كبرى شملت البلاد وجلاء المستعمر، لقد مرت حياتها دون أن تعيها، وأخوها الأقرب سامي فهو يمثل نموذج الشباب الواعي الذي تتوافق فيه أقواله مع أفعاله، ويقف في كفة الميزان مقابل كل ما يمثله أخوها راغب من انتهازية وظلم مستعيناً بتمسك والده بالتقاليد أيَّاً كانت صحتها أو فعاليتها المعاصرة، ولا يهوّن عليها هذا التأرجح بين الكفتين سوى حبيبها عادل بكل ما أضاف لحياتها من شاعرية وارتقاء روحي وثقافي وإنساني، فماذا يكون مصيرها إذا ما فرغ الميزان من إحدى كفتيه؟

وعلى الرغم من بساطة اللغة وسلاسة السرد الذي تميزت بهما الكاتبة، إنما القصة فيها لا تمر بذات البساطة بعد قراءتها،  فتجد نفسك مختبئ في قبو العائلة في أثناء القصف الفرنسي العنيف الذي دمر الشام حينها، وتسير مع الهاتفِين في ساحة المرجة بكل عنفوان ونشوة، أو حتى تقطف ورق العريش مع سامي وصبرية بمشهد أخويٍ دافئ، أو تستمتع بفنجان قهوة مع سامي وصبرية وعادل وتصغي إلى حواراتهم القيّمة، فتسير معهم في حارات الشام  وتحلم معهم في بلد مستقل يحكم بديمقراطية وعدل، تقاتل مع سامي وعادل في صفوف الثورة، أو تركض بغبطة مع الناس عند إعلان الجلاء، وتضم شاهدة قبر مع صبرية وترفع نظرك إلى الغوطة، وتقرأ الفاتحة معها على من رحلوا!

"دمشق بعد الكارثة الرهيبة حمامة وديعة تطوي الجناح على الكسر وتظل صامدة بإباء وشموخ.

دمشق يا بسمة الحزن. يا حمّالة الأسى!...

سرُّ بقائك الأزلي يا دمشقنا الغالية هو هذا الصمود في الكوارث والويلات. وما أكثر ما مر عليك منها! ... ذهب الغزاة والطامعون وظللت أنت خالدة على الدهر."

ونجد أن رواية تتميز ببطولة نسائية في زمن كانت تحلم فيه المرأة بأبسط الحقوق؛ رواية عن الشباب المثقف الثائر الذي يقدم التضحيات لأجل وطن منشود، وعن الحب والأحلام، إنها ليس فقط عن صبرية وسامي وعادل إنها عن الوطن والحرية والاستقلال، وعن الشهداء!

إنها عن دمشق وشعبها، بتاريخها وأوجاعه، بمجدها وأحلامه، وكل التقاطعات وكل المفارقات وكل الأحزان التي لم يُكتب عنها، والابتسامات التي لا تنسى. إنها دمشق بسمة الحزن.

المصدر:

ألفة الإدلبي. رواية "دمشق يا بسمة الحزن": منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي؛ 1980. ص 270.