الفنون البصرية > فن التصوير

الكاميرا، عينًا سحريّةً تلتقط سرياليّة الواقع

على رُفات الحرب العالميّة الأولى الّتي طحنت بوحشيّتها النّظام العقلاني العالميّ، وأحدثت شرخًا في تقبُّل الواقع المادّي القائم على عناصر مرئيّة ثابتة وقواعد(١)، ظهرت ممارسة رائدة للتّصوير الفوتوغرافي، شملت كل ماهو غريب ومحرّض لسلطة اللّاوعي والخيال، سعت على نحوٍ أساس لالتقاط خُطى السّرياليّة إذ تمضي متخفّيةً في مختلف جوانب الحياة اليوميّة، سُمّيت بفن التصوير الفوتوغرافيّ السرياليّ.

فن التصوير الفوتوغرافي السّريالي:

نمى فن التّصوير الفوتوغرافي السّريالي من جذور الحركة "الدّادائيّة" المنهارة مُستلهمًا من ممارساتها الارتجاليّة أُولى تقنيّاته (2)، ثمّ تبلور نهجًا حُرًّا مع إعلان السّرياليّة حركةً مستقلّة، عبر نشر أول بيان لها من قبل الشاعر والكاتب الفرنسي أندريه بريتون (André Briton) عام 1924 (3)، إذ كان الاستخدام السائد لفنّ التّصوير قبل عشرينيات القرن العشرين متمحورًا في كونه أداةً علميّةٍ تلتقط صورًا دقيقةً للعالم الخارجيّ فقط؛ ما دفعَ الفنانين السّرياليّين لتوظيفها في نشر أفكار السّرياليّة على نحوٍ بصري انطلاقًا من رغبتهم تأكيدَ رفضهم للواقع الجامد والفن القائم على القواعد (2). وإذ اعتقدوا أنّ الإبداع قد تأثّر في الكدح اليوميّ (1)، فقد سعوا لإطلاق العنان لقوى إبداعية وضعتهم على طريق الأحلام والصُدف والنشوة الجنسيّة والجنون (3)، واعتمدوا على  عناصر تتحدّى تصورات المشاهد و تبرز كل ما يُلتَقَط على نحوٍ منفصل عن السياق المعتاد (2)، وكذلك تتناول كل ماهو غريب وأثيري ومتناقض (3)، وقد طوّر هذا الفن مزيجًا من الصّور والنّصوص بهدف إيصال نيّة الفنان الغامضة للمشاهد (2).

مبادئ فن التّصوير الفوتوغرافي السّرياليّ:

يقومُ هذا الفن على تحدّي المفاهيم الطبيعيّة للحياة عبر إطلاقِ قوة الغرابة وتحرير الخيال للوصول بالمشاهد لحالة أشبه بالحلم، وتحويل الصّور المستمدّة من العالم المادّي الحقيقي لصور محيّرة تتحدّى الإدراك وتولّد في المتلقّي إحساسًا عميقًا بالواقع المشوّه (2).

انتشر فن التّصوير الفوتوغرافيّ السرياليّ في كل من ألمانيا وفرنسا ثمَّ انتقل إلى أميركا(2)، وتبنّى كل ما هو سطحي وصادم وغير تقليدي. غيرَ أنّ الأمر لم يقتصر على كونه وسيلة لاختلاق صور غريبة فقط، بل تعدّاه أيضًا ليشمل أكثر الصّور الفوتوغرافيّة واقعيّة وتقليديّة عبر انتزاع جذورها من إطار الواقع وتضمينها في منحى سرياليّ، فتحوّلت عديد من الصّور الأنثروبولوجيّة واللّقطات العاديّة والسينمائيّة والصّور الطبيّة لسيرياليّة التي دُرّجَت في المجلّات السرياليّة مثل ( La Révolution Surréaliste) ،وقد أدّت هذه المجلّات دورًا بارزًا في انتشار فن التصوير الفوتوغرافيّ السرياليّ، إذ إنّ كل عدد أُصدِرَ كان يحوي على نُسخٍ متزايدة من الصّور (3).

شكّلت المبادئ السّرياليّة في البداية تحدّيًا كبيرًا بالنسبة للمصوّرين، فلم يُتاح للرسّامين السُّرياليّين باستحضار أغرب الصّور والأحلام من مخيّلاتهم بواسطة الفراشة والطّلاء على لوحةِ الرّسم، مادفعهم لتطوير تقنيّاتٍ عديدة مازالت تُستخدم إلى الآن من قبل فنّانين كُثر لإبراز معالم السرياليّة بصريًّا (1)، وتتضمّن: تعديل الصّور بالمونتاج وهي عمليّة جمع لصور متنوعة ومختلفة لإنتاج أعمال جديدة (photomontage)، التّعريض المزدوج (Double exposure)، دمج الصور بالطباعة (Combination Printing)، التشميس (solarization) أي تعريض صور مطوّرة جزئيًّا للضوء، التلاعب بالصورة بعد التقاطها (Post-production manipulation)، إنتاج صور فوتوغرافيّة بدون كاميرا (photogram) والتّدوير والتّشويه وغيرَها(1,3).

أبرز روّاد فن التّصوير السّريالي وأشهر أعمالهم: 

ماكس إرنست (Max Ernest)، وهانا هوخ (Hannah Höch):

كانا من روّاد حركة "دادا" الّذين أنتجوا صورًا غريبةً وغيرَ مألوفةٍ باعتماد تقنيّة تركيب الصّور، وذاك عبر تقطيع صورٍ أصلية باستخدام المقصّ والغراء وإعادة جمعها بتباين وعشوائيّة، نتيجةً لرفضهم الفن التقليدي، إذ يُعدّ تركيب الصّور أحد أهم الطرائق التي هوّ بها الدادائيون النظام الجمالي التقليدي لعالم الفن.(2)

مان راي (Man Ray ): 

كان عضوًا في الحركة الدادائيّة ثمّ أصبح أحد روّاد التّصوير الفوتوغرافي السّريالي. استخدم تقنيّاتٍ متنوعة لتحويل صور عاديّة إلى أُخرى تحمل طابع الغرابة، فقد أنتج صورًا لأشياء منزليّة بسيطة لتبدو أقرب لمخلوقات مُستحضرة من المستقبل (2). اشتهر بصوره الفوتوغرافيّة التي أنتجها دون كاميرا والّتي أَطلق عليها اسم (Rayographs)، وذلك عبر وضع جسم ما على سطح حسّاس للضّوء ثم تعريضه للضّوء. ومن أشهر أعماله الفنيّة المصمّمة بهذه الطّريقة سلسلة من صور مرافقة لنص من كتابة الشّاعر الدّادائي تريستان تزارا تُدعى الحقول الشهيّة "Champs Delicieux" (1)

وجين أتجيت (Eugène Atget) :

جال باريس بكاميرا قديمة الطّراز ليلتقط باستخدام تقنيّة العرض المزدوج صورًا ل دمى عرض الملابس(مانيكانز) وهي مؤطّرة بواجهات المتاجر فإنّ إيماءاتهم المبالغ فيها تؤدي إلى لوحة غريبة وما يزيدها تعقيدًا وغرابة انعكاسات أنشطة العالم الخارجيّ على الواجهات.

استمرّ يوجين بتصوير الواجهات مدّة عقد من الزمن، ولم يبرز عمله حتّى عشرينيات القرن الماضي، لكنّه أثار بأعماله الّتي خلطت بين الدّاخل والخارج أجواء سرياليّة وشكلًا حالمًا من اللاواقع (2).

نُشرت أعماله في (La Révolution (Surréaliste عام 1926، بناءً على اقتراح مان راي، بعد أن حصل على موافقته (1)

عُدَّ يوجين رائدًا للأساليب السرياليّة والحديثة في التّصوير (1)، وقد قال المؤرّخ الفنّي إيان واكر (Eian walker) عن أعماله: 

"يبدو أنّه يُشكّل جسرًا بين التّصوير الطبوغرافي في القرن التاسع عشر والحداثة في القرن العشرين، وعلى وجه الخصوص السرياليّة" (2)

دورا مار (Dora Maar )  : 

انخرطت في التصوير الفوتوغرافيّ لأسباب فنيّة وسياسيّة، واشتهرت قبل أن ترتبط بالسرياليّة بسلسلة صور للفقراء والمحرومين في برشلونة وباريس ولندن، ثمّ توجهت للفن السرياليّ للتعبير عن أفكارنا وتوجهاتها، ومن أشهر ما أنتجتهُ تحت مظلّة هذا الفن كان "جنين المدرع" (Armadillo Fetus)، حمل هذا العمل اسم بطل مسرحيّة (Ubu Roi) للكاتب ألفريد جيري ( Alfred Jarry) الّتي صدرت عام 1896، لكونه عملًا مسرحيًّا سرياليًّا يحتفي بالعبثيّة والغرابة، وقد استخدمت صورة حيوان مدرّع لاستعراض الطبيعة البشريّة الوحشيّة والمثيرة للاشمئزاز بطابع سرياليّ. لم تستخدم دورا أيّ من تقنيات التلاعب بالصّور لإنتاج هذا العمل فقد كانت تؤمن أنّ الوحشيّة والفاحشة تَطغى على المألوف في الحياة العاديّة، هناك نوعية كابوسية للصورة، تتفاقم بسبب حقيقة أن المشاهد يدرك حقيقتها (2).

هانز بيلمر (Hans Bellmer):

أحد أشهر أعماله كانت الدّمية (The Doll)، والّتي صنعها وهو في عزلة فنيّة نسبيّة، إذ صنع منحوتاتٍ للدّمى ذات طابع جنسي مُستوحاة من الأوبرا الأخيرة لأوفنباخ (Jacques Offenbach) - بطل أحداثها يقع في حب دمية- ثمّ قام بتصويرها بوضعياتٍ مختلفة وذهب أبعد من ذلك بجعل دماه رمزًا للعنف الجنسي من خلال قتلها وشنقها وتقطيعها؛ لإظهار الدافع اللاواعي متجسّدًا في العلاقة بين الكائن والشّيء(2).

إن إنهيارَ فكرة الكمال النفسيّ لدى العالم نتيجة الحرب والصّدمات التي تلقاها الجنود حطّمت الشكل التقليديّ للواقع وخلقت صورةً مُعقّدة مضطربة دفعت الفنانين السرياليين لإنتاج أعمال تحرر الخيال وتنطلق من غرابة اللّاوعي لتعبّر عن هذا الواقع.