كتاب > روايات ومقالات
السُّخرية اللاذعة، والحلم العربي المُجهض؛ مراجعة رواية “العصفورية”- غازي القصيبي
العصفورية – غازي القصيبي
غازي القصيبي (1940 - 2010) شاعرٌ سعودي، وزيرٌ وكاتب ودبلوماسي، صدرت له العديد من الأعمال المؤثرة، مثل "شقة الحرية" و"أقصوصة الزهايمر"، وأعمال صحفية وشعرية جديرة.
إذا اقترح عليَّ أحدهم من قبل قراءةَ كتابٍ يسخر من البيروقراطية والسياسة والأدب والفلسفات الوجودية والتحررية وأسلوب الحياة الأمريكي والذهنية العربية والذهنية المجتمعية لليابان والألمان والفرنسيين والأصوليين والطبقات البرجوازية والمُعدمة والمجانين والجن والإنس والأطباء النفسيين والمُنظِّرين في علم النفس والشعراء والحكَّام والمتكلمين والطوائف والنساء، لتصورت أن هذا العمل إما أن يكون رداءة محضة أو عبقرية فذّة، والحقيقة أن "العصفورية" عبقرية فذّة.
ويتابع القارئ حياة البروفيسور وما أقدم عليه من أفعال وأحداث ومحاولات لتحقيق غايتين فقط: نهضة الأمة العربية وتدمير إسر#ئيل. وهذه أولُ رغبة لكلِّ عربيٍّ منذ الهزيمة عام 1948م، والتي تمكن الكاتب من توظيفها والتحليق بها بعيداً؛ مُصوراً الأنموذج العربي الذي يحمل الآمال العربية والأحلام، والطبائع والخصائص والمقولات والتاريخ والشعر والأدب، في شخصية أودعت العصفورية (مصحة نفسية) وراحت تتحدث إلى طبيب نفسي عن الظروف التي دفعت بها إلى هذا المكان.
لقد تمكَّن الكاتب من الوقوف على معظم ملامح الشخصية العربية النموذجية من خلال هذه الشخصية،وذلك بدءاً من التاريخ الشعري والإسلامي والأدبي، مروراً بالآمال والحركات الوطنية والقومية، وانتهاءً بالطباع والميول التي لا تفارق العربي وتشكِّل نظرته إلى الحياة، ومن هنا انطلق في سخريته اللاذعة من عديد من المُستجدات على الساحة العربية، من فلسفات وأنظمة حكم وأيديولوجيات وطباع، نقتبس هنا عباراته المُنتقدة لمفهوم السعادة الذي ولدته الرأسمالية في أمريكا وباتت تُصدره لدول العالم الثالث لخلق أسواق عديدة تضمن منها الربح:
"طارد الشعب الأمريكي السعادة. عن طريق إبادة الملايين من الهنود الحمر. وإعطاء كل مغامر مهاجر آلاف الفدادين المسروقة منهم. وعن طريق استشفاط أعظم العقول في العالم، مشلك وشرواك، وإذابتها في قدر الصهر، ذا ملتنغ بوت. طارد الشعب الأمريكي السعادة عن طريق العنف. أعظم المجتمعات عنفاً في التاريخ. أكثر من مائة مليون أمريكي يملكون السلاح. الشعب الترسانة. وأكثر من مليون أمريكي وراء القضبان. عدد سكان دولة من دول هذه الأيام. الشعب السجن .. تستطيع أن تختصر الحضارة الأمريكية، إذا كان بالإمكان أن تسميها حضارة، في كلمتين: السعادة العنيفة. أو العنف السعيد. لم يسبقني أحدٌ، يا دكتور، إلى اختزال الحضارة الأمريكية في كلمتين. رغم وجود ملايين المؤلفات عن أمريكا. لم يلاحظ أحدٌ قبلي الارتباط بين هذين الحقين العجيبين: مطاردة السعادة وحمل السلاح. أنا، بكل تواضع، أرى حلقات بين الأشياء لا يراها الآخرون .. ولكن الأمريكان لا يسمون العنف عنفاً. لا أحد يسمي الأشياء بأسمائها إلا الأتقياء والأغبياء. أهل أمريكا يسمُّون العنف منافسة، كومبيتيشن. كلمة ظريفة!"
".. أمريكا بلد العنف المُسمى منافسة. بلد المعافسة. وهذه كلمة نحتُّها الآن. ارتجالاً، كم كلمتَي العنف والمنافسة. لا بد من تسجيلها في أضابير محكمة العدل الدولية"
تُذكرني هذه الأعمال العظيمة بالأعمال الفنية القديمة مثل مسرحية كاسك يا وطن وفيلم الحدود، والحقيقة أن هذه الرواية تحفة فنية أدبية سياسية ساخرة ترقى إلى مستوى من البراعة الثقافية والأدبية والسياسية، من الصعب الوصول إليه وتحقيقه ضمن قالب روائي تقولبت فيه الأحداث ضمن حوار طويل بدأ ببداية الرواية وانتهى بها، دون أن يشعر القارئ بالملل من الفكرة أو استهلاكها أو تبسيطها على نحوٍ مُخل أو تعقيدها ليصعبَ فهمها، والحقيقة أن هذه البراعة تحتاج موهبة أدبية فريدة من نوعها، وجدتها متحققة لدى الكاتب.
وكما قال الطيب صالح، فقد صنع القصيبي رسالته الغفران الخاصة، إنها مذهلة.
غازي القصيبي، العصفورية، دار الساقي، 1999، 303 ص.
معلومات الكتاب:
اسم الكتاب: العصفورية (رواية)
اسم الكاتب: غازي القصيبي
دار النشر وعام النشر: دار الساقي (1999)
عدد الصفحات: 303