كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
لنبحر أعمق داخل التمثيل؛ مراجعة كتاب
من فوق خشبة المعهد العالي للفنون المسرحية، وعلى حافة المسرح وصولاً إلى كواليسه، سيحكي لنا الكاتب والمخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي في كتابه "الموت نصاً" عبر دراسة مسرحية يمزج فيها النثر بالمقالة عن مفهوم الموت والحياة واللذة والمسرح، إن الأسدي الذي نحى من العراق نحو المسرح القومي الفلسطيني، ليعودَ إلى معهد دمشق العالي للفنون المسرحية فيدرّس فيه، فلن يرضى إلا الولوج إلى آخر خشبة في عمق المسرح عبر مقتطفات يداعبُ فيها بالنثر عقلنا وعبرها نلتمس فضاءاتٍ لم نعهد رؤيتها، حتى يجيب عن أسئلة لم تخطر في بال أحد، وإذا ما خطرت وخطر جوابها صار التمثيل فناً مسافراً داخلنا بين السهل الممتنع إلى الصعب العصي
فيبدأ الأسدي هذه الدراسة بمقدمةٍ يحكي فيها شيئاً منه كأنما يرمي باب المودة مع القارئ عبر الإفصاح والكشف، لنتهجى من مدخل الكتاب حزن العراق والمنفى، والسفر والأرصفة إلى المسرح ببعضه لا بكله
وعلى ضوء ذلك ندخل في صلب المسرح مع الولوج أكثر فأكثر داخل هذا الكتاب وتحديداً مع مقالة "المسرح واللابلاد" والتي معها نكون قد بدأنا في ما يحكيه لنا جواد عبرها من تداخل المسرح مع الطفولة، وعن علاقة المسرح مع الأرصفة بوصفها الخشبة الأولى، ليزيد حديثه في هذه المقالةعن التحديات المسرحية في العالم العربي.
لينتقل بعد هذه المقالة نحو سلسلة من المقالات بذات الطابع النثري، ليعمق من خلالها الإحساس بالجسد كونه أداة الممثل التي حالما تنعجن روحه فيصنع بها الممثل هالته المسرحية، والتي تتحرر أكثر فأكثر مع تحرر هذا الجسد ومع مقاله "سحر المسرح" سينقل لنا الأسدي افتتاح مهرجان أفنيون المسرحي شارحاً للقارئ فكرته ومناقشاً معه بعض العروض المسرحية التي أقيمت فيه.
ويتابع في مقالة "تمسرح" محاولة شرح ما ليشرح فيحكي عن مقدرة المسرح الهائلة على إعادة صياغة الوجود الإنساني، ومن ثمَّ يمر على لحظات مغادرته للعراق ومع مروره هذا سنغادر وإياه إلى مقالة "الفضاء المسرحي ودلالته"، لنرى في هذا الفضاء توق جواد إلى المسرح، وحنينه للمكان المتجذر فيه وكيف يقدر الممثل من خلال المسرح على حمل كل هذا التوق فوق ظهره على الرغم من إغراق الفن المسرحي وسائر الفنون في هذا العالم بمحيطات من التقييد والقمع.
ومع مقالة "البروفات المسرحية والمؤانسة" سيمرر لنا جواد دفئ البروفا المسرحية، فيحكي لنا عن المعنى الكامن فيها ولو كان الظاهر في البروفا اللامعنى على حدِّ تعبيره إلا أن الأسدي سيقص لنا في هذه المقال مراحلَ سير العرض المسرحي من التقاط المخرج للنص حتى الجلوس فوق الطاولة وصولاً إلى بناء الشخصيات المسرحية والتي سيختلف البناء لها من ممثل إلى ممثل وهذا ما يجعل تركيزه موجهاً فيما بعد على إبداء رأيه الماثل في الممثل من خلال مقالتين يتحدثان عن " فرادة الممثل "، والتي يبحث فيهما الأسدي عن أولئك الممثلين الذين يرون في المسرح خلاصهم العقلي والجسدي والوجودي.
لا ينسى جواد الأسدي في هذا الكتاب العبور إلى مسرح الطفل فيحكي عنه عبر مقالة خاصة هي "مسرح الطفل والحرية"، ومن ثم يعود إلى الشكل التقليدي متناولاً المصطلحات الجديدة الداخلة إلى هذا الفن في مقالة "سبونسر"؛ إذ أسهبَ فيها عن اقتحام السوق والتجارة إلى التمثيل جاعلاً إيّاه مهنة، ليكمل بعدها في "الاستبداد الإنتاجي" بحثه في الهوة الكامنة بين المسرح والإدارة القائمة، وذلك ليعوض التشرذم في وضعه لعدد من المقتطفات المسرحية مثل فاصل بين هذا التخبط كله، ومقالهُ في الأشخاص الذين يراهم حسب معاييره هم المعنيون بالمسرح.
وبعد ذلك يخصّ الأسدي في باقي مقالته شخصيات لا تنفك عن المسرح ولو كان بعضهم لا صلة لهم مثل الشاعر محمود درويش الذي يرى جواد في أسلوب سرد درويش لقضيته باستخدام الشعر مسرحاً كاملاً لا يجوز نسيانه، وكذلك في السينما تشعر أن تنقلَ جواد ضمن مقالته ما هي إلا عبارة مقدمة طويلة للوصول إلى الحبكة الرئيسة والمتمثلة في الموت نصاً عند "سعدالله ونوس"، والذي له الباع الأكبر من الذكر في هذا الكتاب بكونه من رواد المسرح العربي، بالإضافة إلى أن جواد كان صديقاً قديماً له، ولفواز الساجر أحد أساتذة المعهد العالي في دمشق.
يصور جواد الأسدي عبر مقالات سعدالله شيئاً من حياته ومن إرهاصاته وكثيراً من فنه حتى الوصول إلى موته، وينقلب الكتاب بعد سعدالله ليخصَّ المسرحيين المحليين والعالميين، فيحكي عن قاسم حداد، ومتجهاً نحو معين بسيسو فيكون له حصة من الإسهاب، وكذلك كان مطمئناً بأنه لم يقصر أنه مر مرور الكرام على جوزيف صقر في "مركبة اللازورد"، ليحيي مسرح الرحباني ومن ثم يمضي نحو نيرودا ليسلط الضوء على أثره الأدبي في الوجدان ناقلاً، ومن ثمَّ هذا الضوء بوصفه رجل إضاءة ماهر نحو ميلان كونديرا الذي أعطى للمسرح شكلاً سينمائيَّاً لا ينفك أحدهما عن الآخر.
ليركز جواد في نهايات كتابه عل فواز الساجر صديق الأسدي وسعدالله وزميلهما في بناء لبِنات المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، ومن ثم كي لا ينسى أحدَ رموز القضية التي عمل في مسرحها الوطني، ليضع خواتيم كتابه في يد حنظلة المعقوفتين إلى خلف ظهره، ليناشد في ناجي العلي تجاوز الأسدي للعراق وثبات قلبه على الحدود بين العراق الذي وُلد منه، وسوريا التي علم وتعلم فيها، وفلسطين التي اعتنى بمسرحها القومي كاعتناء الأب بأطفاله.
ومع الوصول إلى جان جنيه يتناول جواد في آخر مقالة له مسرح هذا الأديب الفرنسي بكل ما أوتي من نثر، لينهي بذلك كتابه تاركاً في القارئ على الرغم من المغالاة في الاستعارات والمجاز شيئاً من الحنين لمسرحٍ لم يصعد فوقه، وغبطة للحظات لم يعشها، وذكريات في بلادٍ لم يسافر إليها.
المصدر:
جواد الأسدي. الموت نصّاً. دار الفارابي بيروت-لبنان ؛ الطبعة الأولى 1999. ص 165.