الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

الغباء

على الرغم من أنّنا نتشارك معًا الحس السليم للأشياء، غيرَ أنّ هناك ما يتفوق على هذه الميزة لدينا من سوءِ فهمٍ وتفكيرٍ خاطئ وخداع للذات وكل ما يمكن أن يطلق عليه صفة "الغباء Stupidity"، سواء أكان هذا الغباء صادر منّا أم من الآخرين، فرديًّا كان أم جماعيًّا، كوميديًّا أو تراجيديًّا، فالغباء يملأ حياتنا اليومية بتفاصيلها حتى بات من نسيج الحياة نفسها (1).

والمريب في الأمر أن الغباء ينشط في كل اتجاه في الحياة حتى كاد يتماهى مع الحقيقة وأصبح من الصعب تمييزه عنها، على الرغم من أن مسار الحقيقة هو ذاته في أي مناسبة أو موقف، غيرَ أن الغباء قد يتمكن من هذا المسار فيحل محل الحقيقة ويلبس ثوبها وهو ما يجعل منه خطرًا في حد ذاته (2).

والغباء اصطلاحًا يُنسب إلى مجموعة واسعة من الأمور: الأشخاص، والأفعال، والنكات، والأفكار، إلخ (3)، وبحسب دراسة منشورة عام 1957 بعنوان "العبارات المستخدمة للدلالة على الغباء باللغة الفرنسية" فإن الغباء يستحوذ على ما يقرب من 1500 مفردة ومصطلح وتسمية في تلك اللغة، وما يزيدُ الأمرَ غرابةً أن غموض مفهوم الغباء جعله يتناسب مع انتشاره المطلق في الحياة، فالغباء هو "تلك اليد التي تتفوق على كل من خصلتيّ التضحية والسمعة النبيلة" (1).

وإن كنّا قد اعتدنا أن نُفسّر الغباء على أنّه نقيضُ الذكاء، على اعتبار الغباء "نقص في قوة المعالجة الفكرية من النوع القابل للقياس باستخدام اختبارات الذكاء" (3)، أو أن الغباء حصيلة مجموعة معينة من التأثيرات، ونتيجة لإعاقة السلوك لنفسه، فقد يَرجع إلى فقر المخزون المفاهيمي أو محدوديته لدينا (3)، وفُسّرَ أيضًا من قبل عالم النفس الأمريكي روبرت ستيرنبيرغ (Robert Sternberg-1949) بأنه "فشل الإنسان في الاستخدام الأمثل لقدراته المعرفية (3)، فإنّ حقيقة الغباء لدى الفلاسفة قد تبدو أعقد من ذلك، وقد أشار الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز(Gilles Deleuze 1995-1925) إلى موقف الفلسفة من الغباء والمتمثل في "النسيان المتأصل في الفلسفة تجاه الغباء والنابع من موقفها منه والذي تراوح ما بين التحيُّز والغرور المتبادلان، فمن التحيز عبر اختزال الغباء بوصفه مجرد نوع من الخطأ أو الجهل إلى امتناع الفلسفة عن تناول الغباء بجدية، وهو ما أوقع الفلسفة نفسها في الغباء لكونها لم تأخذ مشكلة الغباء على محمل الجد بل حتى أنها فشلت في تحمل الغباء بحدّ ذاته (1)!

أما الفلاسفة الذين تطرقوا للغباء فكان لهم تفسيراتهم الخاصة فالفيلسوف الروماني اميل سيوران (Emil Cioran 1911-1995) ذهب إلى طرح معادلة الغباء والسعادة والجهل في رمزية قصة آدم وحواء ورأى " أن الغباء هو عدم قدرتنا على التكيف مع السعادة، ويتجلى عدم التكيف هذا في خيانتنا الأصلية لهبة الجهل" (1) أما الفيلسوف الألماني نيتشه (Friedrich Nietzsche 1900-1844) فكان له رأيٌ آخر ملمّحًا إلى الغباء في مقالته 'عن استخدامات ومساوئ التاريخ من أجل الحياة' عبر إشارته للبشر على أنهم أغنام أو خراف أو رعية، فهي خراف مرتاحة وسعيدة تأكل وترعى لا تميز بين اليوم والأمس، وهو ما أثار فضول الفيلسوف البولندي ميشالسكي (Michalski 2013-1948) الذي افترض أن سعادة هذه الأغنام هي ببساطة الجانب الآخر لغبائهم، والسلام البسيط الذي لا يزعجهم في اللحظة التي يعيشون فيها' (1).

أما الفيلسوفان الألمانيان أدورنو (Adorno 1969-1903) وهوركهايمر (Horkheimer 1973-1895) قد ردّا الغباء إلى إمكانات الإنسان ذاتها، إذ أعدّا الغباء 'نقطة عمياء' مكتسبة، لا تقتصر على المعرفة فقط  بل تشمل جميع القدرات العملية والعقلية (3)، معارضين بذلك افتراض كانط (Immanuel Kant 1804-1724) بأن الغباء هو "فشل في إصدار الحكم" وبرأيه هو عجز فطري غير قابل للإصلاح أو التعويض، على اعتبار أن الحكم هو "القدرة على تمييز الشيء بوصفهِ تمثيلًا للقاعدة المطروحة أو لا"، ويتجسد الغباء الكانطي في الفجوة ما بين المفاهيم وتطبيقها أو عدم القدرة على الانتقال من العام (القاعدة، المبدأ) إلى الخاص (التطبيق) (3).

ومن الباحثين الذين استفاضوا في دراسة الغباء المستشرق والباحث التشيكي الويس موسيل (Alois Musil 1944-1868) رافعًا مستوى النقاش عن الغباء فطرح مفهوم "الغباء الذكي intelligent stupidity " الذي وصفه بأنه فشل في الذكاء لا نقص فيه (3)، ورأى موسل أن الغباء الذكي هو مرض حقيقي يصيب الثقافة، وهو لا نهائي ومستمر لكون الإنسان يخضع اليوم لتكاثر فيروسي من المثل المعيارية عنه لدرجة التعقيد، سيما أن الثقافة لا تخضع لمعيار الحقيقة مباشرةً، ولكن في النهاية لا يمكن لثقافة عظيمة أن تقوم على علاقة مشوهة بالحقيقة، لذا اقترح موسيل بديلًا ينقذ الإنسان من غبائه الذكي فطرح مفهوميّ "الاهتمام والانتباه Attention" باعتبارهما ناتجان عن الرغبة في المعرفة وهو ما يتطلب منا "الموضوعية Objectivity" عبر تحييد مشاعرنا جانبًا في تناول أي قضية (2)، وذلك من منطلق وعينا بالقيمة (الظاهرة) التي تتعارض بطبيعة الحال مع الغباء الذكي لأن هذا الوعي أو الإدراك عادةً ما يُثير الاهتمام والرغبات المعرفية لدينا (2)، مما ينقذنا من مأزقِ العجز الإدراكي والمفاهيمي للموضوع أو الموقف الذي نمر فيه.

المصادر:

1.de Warren N. The Maturity of Stupidity: A Philosophical Attempt on Flaubert and Others. AVANT The Journal of the Philosophical-Interdisciplinary Vanguard [Internet]. 2018 Sep 30 [cited 2022 Apr 20];9(2):17–42. Available from: هنا

2.Mulligan K. Foolishness, Stupidity, and Cognitive Values. Sugden SJB, editor. Monist [Internet]. 2014 [cited 2022 Jan 13];97(1):66–85. Available from: هنا

3.Golob S. A New Theory of Stupidity. International Journal of Philosophical Studies [Internet]. 2019 Jun 23 [cited 2021 Nov 13];27(4):562–80. Available from: هنا