الفنون البصرية > فن وتراث
موغاو- كنزُ صحراءِ الصّين.
إن قصدتَ الصّين لأوّل مرّةٍ فلن تفكّر بمغادرتها قبل رؤية كلٍّ من سورها العظيم والمدينة المُحرّمة ومحاربي تيراكوتا. ولكنْ إن عرّجت إلى واحة دونهوانغ -وهي مدينةٌ صغيرةٌ على حافّة صحراء غوبي شمالَ غرب بكين قبالة نهر داتشوان- فستكتشف موقع تراثٍ عالميٍّ مُنافسٍ لأكثر مناطق الجذب السّياحيّ شعبيّةً من حيث الجمال والأهمّيّة الثّقافيّة، وهي كهوف موغاو الّتي يُشار إليها أحيانا باسم كهوف الألف بوذا.
تقع كهوف موغاو الصّينيّة على أطراف صحراء غوبي. وتضمّ مجموعةً لا مثيل لها من الفنّ البوذيّ، تعود إلى ألف سنةٍ خلت، مُعطِيةً الإلهام لأجيالٍ جديدةٍ من الفنّانين المعاصرين من مبدعي الرّسم بالحبر وحتّى مبدعي الألعاب النّاريّة.
على امتدادٍ يشمل 492 كهفاً منحوتاً على هيئة وجوهٍ حجريّةٍ على ارتفاع 9 طوابقَ، تتواجد مجموعةٌ لا مثيل لها من الفنّ البوذيّ، بأكثر من 484000 قدمٍ مربّعٍ من الجداريّات و 2400 من المنحوتات. كهوف موغاو -والّتي تعني في اللّغة الصّينّة 'الكهوف منقطعة النّظير'- هي أكبر مُستوعَبةٍ لبدايات الفنّ الصّينيّ المُمتدّ من آلاف السّنين، ابتداءً من القرن الرّابع وحتّى القرن الرّابع عشر. تقع على مشارف طريق الحرير -وهو طريق التّجارة العظيم الّذي يربط البحر الأبيض المتوسّط بالصّين- وتُعتبَر المكان الّذي يتقاطع فيه العديد من ثقافات العالم من يونانيّةٍ ورومانيّةٍ وفارسيّةٍ وشرق أوسطيّةٍ وهنديّةٍ وصينيّةٍ، كلّها تتفاعل مع بعضها مُعطيةً طبيعة عالمنا اليوم.
في نيسان عام 2013 أطلق معهد الصّين في نيويورك احتفالاً دام عاماً كاملاً، نقل فيه فنّ دونهوانغ بوصفها بوّابة طريق الحرير في الفنّ البوذيّ، فضلاً عن نقله لفنونٍ مستوحاةٍ من دونهوانغ كخطوةٍ لإعادة الخلق في الفنّ الصّينيّ المعاصر. كما يخطّط معهد غيتي للحفظ -الذي كان مشاركاً في الموقع منذ عام 1989 بموجب اتّفاق تعاونٍ مع مصلحة الدّولة الصّينيّة للتراث الثقافي (SACH)- لمعرضٍ أكبر بكثيرٍ سيُقام عام 2016 لدعم موغاو. تتزامن هذه المعارض مع الافتتاح الكبير لمركز زوّار كلّف 38 مليون دولارٍ. سيلعب دوراً رئيسيّاً في مشروع الحفظ الكبير، حيث أصبح أكثر أهمّيّةً مع ازدياد الحضور إلى 80000 سائحٍ معظمهم من الصّين.
يُسمَح للزّوّار باصطحاب المصباح اليدويّ فقط، فيُدهشون بالخطوط الغنائيّة والألوان الحيّة للّوحات والتّنوّع الهائل في أنماط رسم بوذا.
ففي الكهف رقم 148 مثلاً هنالك تمثالٌ رائعٌ لبوذا وهو مُستلقٍ في حالة سكينةٍ بارتفاعٍ لا يقلّ عن 60 قدماً، مُحاطاً بعشراتٍ من تلاميذه، نُحِت كلٌّ منهم بشكلٍ فرديّ مع تعابير حزنٍ تميّز وجوههم.
وفي الكهف رقم 130 يوجد تمثالٌ لبوذا وهو جالسٌ، بارتفاع 85 قدماً، مُنعكِساً على وجهه ضوءٌ ساطعٌ قادمٌ من نافذةٍ عُلويّةٍ من الكهف. استغرق نحت هذا الرُّقم في الصّخر 29 عاماً، وبعد ذلك تمّت تغطيته بخليطٍ من الطّين والقشّ كباقي المنحوتات، وأخيراً طُلِيَ بأوراق الذّهب والأصباغ الطّبيعيّة. تتواجد أيضاً جداريّاتٌ رائعةٌ كمشاهد من حياة بوذا، وأكثر من 2000 تمثالٍ محيطٍ به يرتدون عباءاتٍ مزيّنةً بتصاميمَ ومجوهراتٍ غايةٍ في الدّقّة. ليست فقط اللّوحات والمنحوتات هي ما يثير في نفس المشاهد إحساساً عميقاً بالتّقدير للإبداع الإنسانيّ، إنّما الموقع بأكمله يُشعِر زائره بالرّوعة.
ليس هناك مجالٌ للشّكّ في الأهمّيّة التّاريخيّة للفنّ البوذيّ في الكهوف. إنّها ليست كهوفاً طبيعيّةً مع علاماتٍ بدائيّةٍ على جدرانها الخشنة، وإنما هي كهوفٌ مُتقَنةُ النّحت على حجرٍ رمليٍّ. معمارياً هي عبارةٌ عن معابدَ مع مداخلَ ومحاريبَ وتماثيلَ ولوحاتٍ حائطيّةٍ تشكّل بالفعل أمثلةً لا مثيل لها للّوحات الصّينيّة، من أيّام واي Wei الشّماليّة وحتّى سلالة يوان Yuan.
يقول نيفيلأغنيو -اختصاصيّ المشروع الرّئيسيّ في معهد غيتي لحفظ الطّبيعة: "من الضّروريّ التّفكيرُ بما عنته هذه الكهوف لأناسٍ قادمةٍ من خارج الصّحراء عندما دخلوا إليها فرَأوا الفنّ البوذيّ المتألّق. لا بُدّ أنّه أقرب إلى المشي إلى كاثدرائيّةٍ بالنّسبة لأناسٍ في العصور الوسطى."
تقول الأسطورة أنه في عام 366 كان هناك راهبٌ في الصّحراء، راودته رؤيا قابل فيها ألف ضوء لهبٍ مشتعلٍ خفّاقٍ. فسّر هذه الرّؤيا كإشارةٍ لإقامة معسكرٍ وحفر الكهف الأوّل. و في القرن الرّابع عشر غزا المغول الصّين، ولم تعد دونهوانغ ملاذاً آمناً -كونها مركزاً رئيسيّاً على طريق الحرير التّجاريّ. فهُجِرت الكهوف لما يقارب 600 عامٍ، حتّى أُعِيد إحياؤها في عام 1900 عندما قام الكاهن أبوت وانغ بمهمّة استعادة الكهوف.
صادف وانغ مخبأً لآلافٍ من المخطّطات البوذيّة المختومة على جدران الكهف المعروف الآن باسم مغارة المكتبة. هذا الاكتشاف واحدٌ من أعظم الاكتشافات الأثريّة، حيث استقطب سلسلةً من المستكشفين الأوروبيّين من بريطانيّين و روسٍ و ألمان و فرنسيّين. هذه المخطّطات موجودةٌ الآن في متاحف في جميع أنحاء أوروبا.
في أربعينيّات القرن العشرين تعبت الصّين من التّخلّي عن مصنوعاتها القيّمة لجهاتٍ أجنبيّةٍ. وهذا ما دفعها لتأسيس أكاديميّة دونهوانغ لمراقبة العمليّات وإجراء الأبحاث في الموقع. تُعتبَر كهوف موغاو اليوم منطقةً مُهدّدةً من قِبل جيلٍ جديدٍ من السُّيّاح بغاز ثاني أكسيد الكربون والرطوبة المنبعثة منهم. ممّا حدا بالأكاديميّة للتفكير في المستقبل، من تنظيمٍ للحشود وإحداثٍ لمسرح عرض أفلامٍ عن التّاريخ وأهمّيّة الفن. تمّ ترقيم أكثر من 150 كهفاً لهذا الغرض وسيتمّ عرض نماذج طبق الأصل على مسافة عشرة أميالٍ من الكهوف نفسها للتّقليل من التّلوّث. وسيحتاج الزّوّار إلى حجزٍ لدخول المركز وسيصلون إليه عن طريق رحلات باصٍ منتظمةٍ. وسيسمح هذا النظام للأكاديميّة بخفض عدد الزّوّار إلى 3000 زائرٍ في اليوم وسيُخصَّص لهم خمس دقائق في كلّ كهفٍ. حاليّاً يستطيع الزّوّار شراء إذن دخولٍ إلى عشرة كهوفٍ كحدٍّ أقصىً مع دليل شرحٍ مُفصَّلٍ حول صناعة التّماثيل.
يقول مؤسّس مؤتمر إدارة مواقع التّراث العالميّة: "لست مع تقصير مدّة بقاء الزّوّار في الكهوف لدرجةٍ تفقدهم الحماس". إنّ مقارنة هذا الموقع مع مواقع أخرى كموقع المدينة المُحرّمة -الّتي يدخلها 180 ألف زائرٍ يوميّاً- والبتراء في الأردن يجعل من المهمّ زيادة العدد بحيث يحصل الزّائر على أقصى فائدةٍ بأقلّ أذىً للكهف.
يقول فان جينشي -مدير الأكاديميّة الّذي وهب حياته للحفاظ على الكهوف: "كنت أخطّط لإنشاء مركز الزّوّار منذ عشر سنواتٍ، لكنّ الحكومة الصّينيّة وافقت منذ ثلاث سنواتٍ فقط." بالنّسبة له فالمركز سيعزّز خبرات السّيّاح لأنّهم سيتعلّمون الكثير عن الموقع وسيتمكّنون من دراسة الكهوف الرّقميّة الّتي تسمح برؤية أكثر ممّا يُمكن رؤيته في الكهوف الفعليّة عن طريق المصباح اليدويّ، التّحدّي الحقيقيّ هو الحفاظ على التّوازن بين السّياحة والحفاظ على التّراث الفريد للأجيال القادمة.
موغاو مصدر إلهام الفنّانين الجدد
ومنذ أربعينيّات القرن العشرين ألهمت كهوف موغاو أجيالاً من الفنّانين الصّينيّين الذين مازالوا يشعرون باتّصال بموغاو بفنّهم، وكان في مقدّمتهم في العصر الحديث زانغ داكيان -أستاذٌ في فنّ التّلوين بالحبر- الّذي اُعتبِر (بيكاسو الشّرق). حيث سجّل مزادُه 24 مليون دولاراً أمريكيّاً في أكبر مركزٍ عالميٍّ للمزايدات في آسيا. أمضى أكثر من سنتين في نسخ الجداريّات، إلّا أنّه اعتمد الرّسم مباشرةً على الحائط في أغلب الأوقات. وقد لعب إظهاره لهذه الرّسومات في الصين عام 1943 دوراً كبيراً في رفع الوعي لأهمّيّة فنّ دونهوانغ، الّتي تَبيَّن أنّها لعبت دوراً ليس بالصّغير في تأسيس أكاديميّة دونهوانغ وجلب اهتمام الفنّانين الصّينيّين لهذه الأعمال الفنّيّة. كما تأثّر بها الفنّان المحترف زانغ هونغتو، الذي كان صاحب فكرة صنع مجوهراتٍ صينيّةٍ أصليّةٍ بدلاً من تقليد المصمّمين اليابانيّين والإيطاليّين. فقام بتجربة العمر، وذهب إلى دونهوانغ لصنع رسوماتٍ للجواهر التي ترتديها التماثيلُ، فأمضى 29 يوماً هناك يرسم مخطّطاتٍ للشّركة التي مولته بينما يعمل على رسومه الخاصّة. وقد تمّ ضمّ أعماله إلى المعهد الصّينيّ للفنّ المعاصر المتأثّر برسومات كهوف موغاو. ولا ننسى الفنّان كاي جو كيانغ، مصمّم الألعاب النّاريّة لألعاب صيف 2008 الأولمبيّة في بكين. وصاحب فكرة مشروع توسيع سور الصين العظيم بحوالي 10،000 مترٍ عام 1993، مع سلسلةٍ من الألعاب النّاريّة امتدّت من آخر السّور حتى الصّحراء. يقول كاي: "أظهرت دونهوانغ لي أنّ النّاس من قرونٍ مضت كانوا يعيشون في حقبةٍ مختلفةٍ، حيث أنّ الثقافة والفنّانين والعناصر الدّينيّة كانت على مفترق طرقٍ ممزوجةً ببعضها، فالحدود بين الدول وخصوصاً بين الشّرق والغرب لم تكن بارزةً جدّاً." من بين المتأثرين أيضا الفنّان شين تيانزو -ذو الـ 28 ربيعاً- الذي سُحر برسوم موغاو المنتقاة بعنايةٍ والتي يتفرد كل منها بقصةٍ. وهو الآن يقلّد إطارات المعابد بما لا يختلف عن موغاو، فالرّسوم الدّينيّة كانت خياليّةً مع أعمدة التعاويذ والقرود والعناصر الأخرى الملوّنة بألوانٍ مُشعّةٍ ومتأثرةٍ برسوم الكهف. يقول جيروم سيلبرغلد -بروفيسور في تاريخ الفنّ الصّينيّ في جامعة برينستون: "أفضّل القول أنّ هناك ثلاثة جوانب لدونهوانغ.. أوّلها: الألوان المستخدمة في الجداريّات جديدةٌ تماماً وأكثر إشراقاً ووضوحاً من تلك الّتي وُجدت في اللّوحات الملفوفة الكلاسيكيّة. وثانيها: استعمال الخطّ كان مسموحاً ومنفتحاً أكثر من الواقعيّة الاشتراكيّة المفروضة في الصّين خلال الثّورة الشّعبيّة. وأخيراً: فقد أعطت خبرةُ زيارةِ الصّحراء بحدّ ذاتها التأثيرَ المنفتح على الفنّانين الصّينيّن، ومن بين الفنّانين الغربيّين المتأثّرين كان جورجيا اوكيفي." عام 2013 أطلق معهد الصّين في نيويورك احتفالاً دام عاماً كاملاً، نقل فيه فنّ دونهوانغ بوصفها بوّابة طريق الحرير في الفنّ البوذيّ، فضلاً عن نقله لفنونٍ مستوحاةٍ من دونهوانغ كخطوةٍ لإعادة الخلق في الفنّ الصّينيّ المعاصر. كما يخطّط معهد غيتي للحفظ -الذي كان مشاركاً في الموقع منذ عام 1989 بموجب اتّفاق تعاونٍ مع مصلحة الدّولة الصّينيّة للتراث الثقافي (SACH)- لمعرضٍ أكبر بكثيرٍ سيُقام عام 2016 لدعم موغاو. تتزامن هذه المعارض مع الافتتاح الكبير لمركز زوّار كلّف 38 مليون دولارٍ. سيلعب دوراً رئيسيّاً في مشروع الحفظ الكبير، حيث أصبح أكثر أهمّيّةً مع ازدياد الحضور إلى 80000 سائحٍ معظمهم من الصّين. تبيّن كهوف موغاو فنّيّة الارتباط بين الإنسان والمناظر الطّبيعيّة والمناخ، فمفاهيم الفنّ المعاصر وأساليبه سواءً أكانت على أرض الفنّ أو بالتّصوير أو بالسّيميائية أو بأيّ حركاتٍ أخرى يمكنها جميعها إيجاد طرقٍ لها هنا. هنا، حيث لا يتمّ تقديم الحديث على القديم بشكلٍ كاملٍ، ولكنّه ببساطةٍ مكانٌ يشعرك بأنّك مُتّصلٌ بالماضي.
المصادر:
مصدر الصّور: