الكيمياء والصيدلة > رحلة اكتشاف دواء

لماذا تفشل الأدوية المُختبرة على الفئران في التجارب السريرية على البشر؟ (الجزء الأول)

خلال عصر الطب الحديث، استُخدامت الحيوانات على نطاق واسع لتطوير الأدوية واختبارها وذلك قبل اختبارها على البشر؛ إذ أدت دوراً محوريّاً في عدد لا يُحصى من الاكتشافات المنقذة للحياة في العصر الحديث.

وعلى سبيل المثال، اكتُشف الأنسولين عام 1889 خلال محاولة العالمين von Mering وMinkowski معرفة أسباب مرض السكري، فعندما أزالوا البنكرياس من جسم كلب ليُصابَ فيما بعد بعد بالسكري، ممّا مهّد الطريق لتصنيع الأنسولين واستخدامهِ في معالجة مرضى السكري (1)، وفي الآونة الأخيرة استُخدمت الفئران المعدلة وراثيّاً لتطوير أدوية ثورية للعلاج المناعي للسرطان (2).

لو كنّا فئراناً؛ لأصبحَ مرض السرطان وألزهايمر والسكري والأمراض المزمنة الأخرى من الماضي!

ويمكننا أن نتناول كمية الجبن التي نريدها دون خوف من الإصابة بأمراض القلب ونركض حول العجلة المفضلة لدينا لساعات متواصلة دون ألم في الركبة (3)، لأن كل هذه الأمراض قد عُولجت في الفئران، ولكن لسوء الحظ، فنحن لسنا فئراناً. 

فمعظم العلاجات الجديدة لهذه الأمراض تفشل فشلاً ذريعاً في التجارب السريريّة على البشر. 

ولكن لماذا تفشل أدوية السرطان ألزهايمر والسكري الجديدة التي تظهر كثيراً من الأمل في الحيوانات على البشر؟

أظهرت مراجعة أجريت عام 2006 أنه من بين الدراسات الحيوانية الأكثر استشهاداً بها في المجلات العلمية المرموقة، مثل Nature وCell، كُررت37% منها فقط في تجارب عشوائية بشرية لاحقة، و18% منها تعارضت مع التجارب البشرية (4).

إذا كنت مصاباً بالسرطان وكنت فأراً، فيمكننا الاعتناء بك جيداً

بَشرّت وسائل الإعلام في التسعينات بوجود علاج معجزة للسرطان، عندما اكتشفَ Judah Folkman، الباحث في مجال السرطان في مستشفى الأطفال في بوسطن، مركب "Endostatin" الذي قضى على مجموعة من الأورام في فئران المختبر، دون آثار جانبية واضحة أو سُميّة ودون مقاومة الأورام للعلاج (5).

وعند إجراء التجارب السريريّة أظهرَ هذا المركّب تحمّلاً جيّداً لدى المرضى، لكنّ تأثيره على نمو الورم كان ضئيلاً وغير متناسق، ووُصِفَت النتائج بأنها مخيّبة للآمال (6)، كان Folkman يعلم أن ما يحدث في المختبر غالباً ما يفشل في تطبيقه على السرير، حينها قال مزحته الشهيرة: "إذا كنت مصاباً بالسرطان وكنت فأراً، فيمكننا الاعتناء بك جيداً" (7).

لاحقاً أعادوا صياغةَ مركب Endostatin ليشكّلَ أملاً لعلاج بعض أمراض السرطان بالمشاركة مع علاجات أخرى (8).

اختلاف التعبير الجينيّ بين البشر والفئران.

عام 2019، نُشِرَتْ دراسة في مجلة Nature، تُظهر مدى اختلاف التعبير الجيني بين البشر والفئران(9).

مع العلم أن جميع أنواع الخلايا بما فيها الخلايا العصبية الموجودة في دماغ الفئران، موجودةٌ أيضاً في دماغ البشر، ومع ذلك بمجرّد أن قارن الباحثون تعبير الجينات داخل نفس نوع الخليّة، وجدوا اختلافات واسعة (9).

ويُعبر عن ثلثي الجينات المشتركة بين الفئران والبشر على نحوٍ مختلف ضمن ذات النوع من الخلية (9)، ويتجلّى الاختلاف الأكثر وضوحاً في الخلايا العصبيّة (9)، على سبيل المثال تُعدّ الجينات المرمّزة لمستقبلات السيروتونين هي ثاني أكثرِ عائلة من الجينات اختلافاً بين البشر والفئران، ممَّا يمثل تحديّاً لاستخدام نماذج الفئران في عديدٍ من الاضطرابات النفسية العصبية التي تتضمن مسار إشارة السيروتونين (9)، وبالتالي عند تصنيع أدوية تستهدف مستقبلات السيروتونين عند الفئران، فإنّها لن تنجح عند البشر، أي أن علاجات الاكتئاب والفُصام والقلق وألزهايمر قد تكون مفيدة للفئران لكنّها ستفشل في علاج البشر.

يُذكَر أن السيروتونين ناقلٌ عصبي ينظّم المزاج و يحتاج الارتباط بمستقبلاته كي يرسلَ إشاراته بين الخلايا العصبية، فمن دون مستقبلاته لن يستطيع القيام بعمله (10).

قد تؤدي نماذج البحث أيضاً إلى فشل تجارب تطوير الأدوية 

مازال العلماء يستخدمون نماذج الفئران لدراسة كل مرض يصيب الإنسان، لكن الفئران قد لا تكون النموذج المثالي لجميع أمراض البشر؛ لتمثيل الأمراض المعقدة على نحوٍ كامل في الفئران، يجب على الباحثين أن يعرفوا بالضبط عدد الجينات التي تحوّرت عند البشر، وهذه المعرفة غير متاحة بعد.

وبدلاً من ذلك، يُحدِث الباحثون طفرة لدى عدد صغير من الجينات لتكرار أعراض المرض (11)، لكن نادراً ما تظهر جميع هذه الأعراض لدى الفئران، مثل خلل الحركة الذي يُعدُّ أحد أعراض مرض هنتنغتون (11).

إضافةً إلى ذلك، هناك مجموعة من الأمراض المعقدة التي تسببّها عديدٌ من الطفرات المختلفة في الجينات البشرية، مثل مرض ألزهايمر، ومن غير المرجّح أن إحداث بعض الطفرات فقط لدى الفئران سيجعلها تعاني ذات الأعراض؛ إذ لم يُطوّر أي من نماذج الفأر المستخدمة لدراسة مرض ألزهايمر عجز إدراكي تقدمي، أو تنكّس للخلايا العصبية بنفس درجة الحالات البشرية (12).

يكرّس الباحثون أهدافهم لجعل تجاربهم قابلة للتكرار، ويكون ذلك من خلال استخدام "الفئران المحددة وراثيّاً" وهي عبارة عن سلالة متحولة فطرية تكون متطابقة وراثيًا على نحوٍ أساسي مع بعضها بعض باستثناء الجين الطافر الذي دُرس، مما يمكن الباحثين في مراكز بحثيّة أخرى من تكرار التجارب وتوقّع نتائج مماثلة (13).

على الرغمِ من أنّ هذه الفئران توفّر بعض المزايا، مثل انخفاض التباين والقدرة على تكرار التجارب باستخدام ذات الخلفية الجينية، إلّا أنها تفتقر إلى التنوع الجيني والتباين الوراثي، وهو مصدرٌ مهم للتنوع الظاهري في البشر، مما يفسر الصعوبات في ترجمة النتائج إلى مجموعة المرضى البشر (14).

فيبقى علاج الفئران باستخدام حمض نووي متطابق يشبه ابتكار علاج لإنسان واحد فقط من بين 8 مليار شخص على وجه الأرض؛ يستجيب كل شخص استجابة مختلفة للأدوية والأمراض، فالدواء الذي ينجح عند مريض ما قد لا ينجح عند مريض آخر.

يُتْبَع…

إعداد: Jinan Mhanna

المصادر:

1. Diabetes(2022) ari.info.(Accessed: 27 May 2024) Available at: هنا

2. Iwai, Y. et al. (2017a) ‘Cancer immunotherapies targeting the PD-1 signaling pathway’, Journal of Biomedical Science, 24(1). doi:10.1186/s12929-017-0329-9 (Accessed: 27 May 2024). هنا

3. Fitzgerald, J. et al. (2008a) ‘Evidence for articular cartilage regeneration in MRL/MPJ MICE’, Osteoarthritis and Cartilage, 16(11), pp. 1319–1326. doi:10.1016/j.joca.2008.03.014. (Accessed: 27 May 2024) هنا

4. Daniel G. Hackam, M. (2006a) Translation of research evidence from animals to humans, JAMA.(Accessed: 27 May 2024) Available at: هنا

5. O’Reilly, M.S. et al. (1997a) ‘Endostatin: An endogenous inhibitor of angiogenesis and tumor growth’, Cell, 88(2), pp. 277–285. doi:10.1016/s0092-8674(00)81848-6. (Accessed: 27 May 2024). Available at: هنا

6.Thomas, J.P. et al. (2003) ‘Phase I pharmacokinetic and pharmacodynamic study of recombinant human endostatin in patients with advanced solid tumors’, Journal of Clinical Oncology, 21(2), pp. 223–231. doi:10.1200/jco.2003.12.120. (Accessed: 27 May 2024) Available at: هنا

7. G;, G. (no date) Remembering judah Moses Folkma, The International journal of biological markers. (Accessed: 27 May 2024) Available at: هنا

8. Sun, Y. et al. (2005) ‘Results of phase III trial of Rh-endostatin (YH-16) in advanced non-small cell lung cancer (NSCLC) patients’, Journal of Clinical Oncology, 23(16_suppl), pp. 7138–7138. doi:10.1200/jco.2005.23.16_suppl.7138. (Accessed: 27 May 2024) Available at : هنا

9. Hodge, R.D. et al. (2019a) ‘Conserved cell types with divergent features in human versus Mouse Cortex’, Nature, 573(7772), pp. 61–68. doi:10.1038/s41586-019-1506-7 (Accessed: 27 May 2024) Available at : هنا

10.Berger, M., Gray, J.A. and Roth, B.L. (2009) The expanded biology of Serotonin, Annual review of medicine.  (Accessed: 28 June 2024) Available at: هنا

11. Simmons, D. (2008) The Use of Animal Models in Studying Genetic Disease: Transgenesis and Induced Mutation, Nature news. (Accessed: 27 May 2024) Available at: هنا

12. Kitazawa, M., Medeiros, R. and Laferla, F.M. (2012) Transgenic Mouse models of alzheimer disease: Developing a better model as a tool for therapeutic interventions, Current pharmaceutical design.(Accessed: 27 May 2024) Available at: هنا

13. National Research Council (US) International Committee of the Institute for Laboratory Animal Research (1999) Genetic and phenotypic definition of laboratory mice and rats / what constitutes an acceptable genetic-phenotypic definition, Microbial and Phenotypic Definition of Rats and Mice: Proceedings of the 1998 US/Japan Conference. (Accessed: 27 May 2024) Available at: هنا

14. Zuberi, A. and Lutz, C. (2016) Mouse models for drug discovery. can new tools and technology improve translational power?, ILAR journal. (Accessed: 27 May 2024)  Available at: هنا