الفنون البصرية > قاموس المصطلحات الفنية
الرّقابة الفنيّة… عندما يسقط خط الدّفاع الأول لدى الديكتاتوريات
"إذا لم نؤمن بحريّة التّعبير حتى للأشخاص الذين نكرههم، فنحن لا نؤمن بها بتاتًا"
ناعوم تشومسكي
إنَّ التحكُّم بما يَسمعه ويراه العالم يدور على نحوٍ أساس عن التحكم بالجماهير العامة، هذا الأمر لا ينحصر فقط بإظهار تماثيل وأعمال فنية وإخفاء أخرى بعيدًا عن عيون العامة، بل يشمل أيضًا حظر منشورات معيّنة وصفحات على منصّات التّواصل الاجتماعي (1). وهذا ما تعنى به الرقابة الفنية أساسًا، فهي تهدف للتحكُّم بمشاعر وأفكار الشعب عبر التضييق على مصادر المعلومات وحصرِها (1)، وهو ما يجعل هذه الرقابة أحد أهم أسلحة الديكتاتوريات وهي التي تضمن استمرارها وثبات سرديتها.
في البرتغال التي شهدت أطول ديكتاتورية في أوروبا، بين عامي 1926 و 1974، ركّز النظام على تصدير صورة وردية عن الوضع فيها، وقام بسجن أعداد كبيرة من الكُتّاب والفنانين والمغنين والمؤلفين، الذين عُذِّبوا وقُتِلوا ونُفوا(2). عندما بُنيَ ميناء جديد في لشبونة ضمن سياسات تحديث المدينة وتصدير صورة إيجابية عنها، كُلِّفَ خوسيه دي المادا برسم لوحاتٍ جدارية لتزيينها وترسيخ هذه الصورة (2). لكن خوسيه استطاع عبر جدارياته التلاعب بالسردية التي فرضتها الحكومة، وصوّر الأشخاص العاديين ذوي الدخل المحدود والمهملين من قبل الحكومة بوصفِهم أبطالًا، وعكس فيها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية والهجرة المتزايدة التي كانت الحكومة تُفضّل ألاّ تُسلط الضوء عليها. عندما كُشِفَ عمله، انتُقِدَ نقدًا لاذعًا من قِبَل الحكومة ، وعُدّت الرموز التي تضمنتها خطرًا وتهديدًا عليها، لكنّها لقت استحسان بعض مستشاري الرئيس، ممّا حال دون تدميرها. اليوم تُعدّ هذه اللوحات الجدارية من أهم مشاريع المدرسة البرتغالية الحديثة، وما زالت في المحطة البحرية، شاهدةً على معاناة الجموع، ومحفورة في الذاكرة البرتغالية (2).
أما في سوريا، فتعود جذور الرقابة إلى الانقلاب الذي قاده حزب البعث عام 1963، وشُدّدَت مع إصدار قانون الأحكام العرفية بعد استيلاء حافظ الأسد على الحكم في عام 1970 (3). منذ ذلك الحين، سيطر نظام الأسد كليًّا على الإنتاج الثقافي ومصادر المعلومات، وكانت تقريبًا جميع أشكال الإعلام تحت سيطرة النظام واستخدمت لإنتاج ونشر البروباغاندا (3). هذه السياسات أدّت إلى تراجع الإنتاج الفني والفكري، وانخفاض كبير في عدد القُرّاء، نتيجة التشديد على الكتب والمطبوعات على نحوٍ خاص. لكن مع ظهور وانتشار الساتلايت في سوريا، أصبح هناك هامش أكبر من الحرية، فلم يعد الشعب مضطرًّا إلى متابعة القنوات الرسمية الأرضية حصرًا، لدرجة أن النظام كان ينوي لفترة معينة حظر الساتالايت بشكل نهائي (3).
عديدٌ من المسلسلات التي بثت منذ التسعينات عبّرت عن الحنين والشوق للحرية، مثل خان الحرير الذي انتقدَ الواقع السياسي والاجتماعي بشكل مُبطّن وغيرَ مباشر، وعبّر عن رغبة الشعب بإصلاحات ديمقراطية ووقف الحكم العسكري المتشدّد (3). استخدام الفن بوصفهِ أداةً ووسيلةً لمقاومة الحكم الديكتاتوري استمر في سوريا، وأدّى دورًا كبيرًا في إشعال الثورة الشعبية عام 2011، من خلال رسم مجموعة من العبارات والرموز الرافضة للنظام على جدران المدارس وفي الشوارع العامة (4). حاول النظام بشتى الطرائق منعَ انتشارِ هذه العبارات او أي صور لها، واعتقل وأخفى كل من أسهم بهذه الممارسات قسريًّا، لكن رغم ذلك انتشرت على نطاق واسع، وانتشرت معها التحركات الشعبية. كانت هذه الرسومات والعبارات وسيلة لتوحيد الشعب، وتوثيق الصراع والعنف والمعاناة التي عاشها عديدٌ ممن لم يغادروا البلاد خلال السنوات التي لحقت (4)، وكانت أيضًا إشارة على أنّ عباءة الخوف التي أثقلت المجتمع السوري منذ الستينيات كانت أخيرًا قد ثُقبَت.
المصادر:
2. How Lisbon’s Maritime Station Murals Survived Censorship - Google Arts & Culture [Internet]. Google Arts & Culture. Google Arts & Culture; 2016 [cited 2024 Dec 31]. Available from: هنا
3. Gray A. Pop Culture and Political Critique in Syria [Internet]. Davidson College. 2016 [cited 2024 Dec 31]. Available from: هنا
4. BOSTIC RK. ART FORMS AND POPULAR PROTEST IN THE SYRIAN CIVIL WAR. Arizonaedu [Internet]. 2024; Available from: هنا