البيولوجيا والتطوّر > التطور
هل لا نزال نتطور؟
عندما غادر الإنسان أفريقيا للمرة الأولى قبل قرابة 60،000 سنة، واجه تحديات طبيعية لم يكن ليستطيع التغلب عليها بتكنولوجيا عصور ما قبل التاريخ البسيطة. ولذلك توقع العديد من العلماء أن مسح خارطتنا الوراثية سيكشف عن أدلة على أن طفرات مورثية "حديثة" انتشرت مؤخراً بسرعة في الجماعات البشرية بالاصطفاء الطبيعي. لكن تبين اليوم أن مسار التطور بالطفرات الوراثية والإصطفاء الطبيعي هو أبطأ مما كان متوقعاً.
هناك في الأعالي
قبل آلاف السنين انتقل البشر للعيش في هضبة التيبت المرتفعة 14000 قدم عن سطح البحر والتي كانت مكاناً مناسباً للتخلص من ضغوط التنافس الحيوي، إلا أن نسبة الأوكسجين المنخفضة على ذلك الإرتفاع شكلت تحدياً حقيقياً حيث انتشرت الأمراض وارتفعت أعداد الوفيات بين المواليد الجدد. وفي عام 2010 توصلت دراسات عدة إلى اكتشاف نسخة لمورثة (أليل) لدى التيبيتيين غير موجودة عند باقي الشعوب، هذه المورثة تضبط إنتاج الخلايا الحمراء مفسرة كيف استطاع التيبيتيون العيش في هذه الظروف القاسية.
هذا الاكتشاف هو مثال قوي عن قدرة البشر على التأقلم السريع مع التغيرات البيئية إذ تقدر إحدى الدراسات زمن انتشار هذه المورثة بـ 3000 سنة وهو زمن قياسي في تاريخ تطور البشر.
لكن تأقلم البشر المهاجرين إلى التيبت هو أحد الأمثلة الكثيرة على التأقلم البيولوجي حيث واجه الإنسان القديم بخروجه من مراعي أفريقيا و شمسها الدافئة تحديات بيئية عديدة سواء في المناطق الاستوائية المطيرة أو الصحاري الملتهبة أو مناطق التوندرا المتجمدة، وبالطبع لم تكن الحيل التقنية البسيطة وحدها كاختراع الثياب وغير ذلك لتفي بالحاجة الماسة إلى التكيف مما استوجب التكيف الوراثي. هذه الطفرات الوراثية التأقلمية يحملها معظم البشر اليوم وتؤكد الدراسات الأخيرة أن حامليها ينجبون أطفال بصحة أفضل من أطفال أولئك الذين لا يحملون هذه الطفرات التأقلمية.
كثيراً ما يُسأل علماء البيولوجيا التطورية: هل ما زلنا نتطور؟
الإجابة هي نعم بكل تأكيد، ولكن التطور يحتاج إلى عشرات الآلاف من السنين ويحتاج الى ضغوط بيئية "ثابتة" و "مستمرة " للوصول إلى طفرة جديدة. أما الطفرات التي ظهرت بسرعة (كطفرة مورثة التكيف مع التيبت) فهي استثناءات.
قبل عشر سنوات فقط كان من الصعب جداً تعقب استجاباتنا الوراثية لتغيرات البيئة بسبب عدم توفر الوسائل اللازمة. أما الآن فأصبح لدينا التسلسل الوراثي الكامل للجينوم البشري وأصبحنا نعرف كيف يمكن لتغيير صغير في بنية الـDNA أن يحدث تغييراً كبيراً في الوظيفة البروتينية. يحتوي الجينوم البشري على ثلاثة مليارات زوج نكليوتيدي أو رسالة مشفرة لبناء المتعضية و يحمل 20،000 مورثة. يرمز حوالي 2% فقط من الجينوم البشري لبناء البروتين وتشكل عوامل التنظيم الوراثي أيضاً 2% منه أما الباقي فلم تعرف وظيفته بعد.
الاختلاف الوراثي بين فردين من البشر ضئيل جداً، فعموماً يكون جينومهما متطابقاً تماماً باستثناء زوج نكليوتيدي واحد مختلف في كل ألف زوج من النكليوتيدات وتدعى هذه النسخة المختلفة بـ الأليل. ولأن معظم المورثات لا تشفر لصناعة البروتين وليست عوامل تنظيم وراثي فإن معظم الأليلات (الاختلافات الوراثية بين الأفراد) لا تسبب اختلافاً بيولوجياً محسوساً في الفرد الذي يحمل هذا الأليل.
ولكن عندما يشفر هذا الأليل المختلف لبروتين وظيفي ما فإنه يؤدي إلى اختلاف في البروتين المصنّع وبالتالي إلى اختلاف هذا الفرد سواء بلون العين أو الجلد أو قابليته للإصابة بمرض السكري أو الفصام أو عوز المناعة المكتسبة وغير ذلك.
تثبيت الأليل المنتخب
عندما يفضل الانتخاب الطبيعي أليلاً معيناً قادراً على مقاومة الضغوط الطبيعية والبقاء فإن هذا الأليل ينتشر بين أفراد الجماعة وينقص عدد الحاملين للأليل الآخر حتى يصبح كل أفراد الجماعة حاملين للأليل المفضل ويتم تثبيته في الجماعة. هذه العملية تحتاج إلى أجيال كثيرة لتتم، وبكلمات إحصائية، تحتاج الجماعة إلى إنتاج 200 جيل أي ما يعادل 5000 سنة لينتشر فيها الأليل الجديد من نسبة 1 بالمئة إلى نسبة 99 بالمئة. نظرياً يمكن لأليل يحمل صفة استثنائية الأهمية أن ينتشر خلال بضع مئات من السنين أما الأليلات الأخرى فيحتاج انتشارها إلى آلاف السنين.
يتمنى العلماء لو كان باستطاعتهم فحص عينات DNA بشرية أحفورية للبحث عن مواضع اختلافها عن مادتنا الوراثية الحالية لكن هذا شبه مستحيل لأن الـ DNA يتحلل بسرعة ولذلك طوروا طرقاً أخرى للكشف عن التغايرات الوراثية الناتجة عن الانتخاب الطبيعي في البشر الحاليين.
سِفر الخروج
عند فحص عينات DNA لـ 1000 شخص تبين أن هجرة الإنسان من أفريقيا تمت وفق ثلاثة مسارات مختلفة هي:
1- مسار الخروج من أفريقيا
2- مسار غرب أوراسيا
3- مسار شرق آسيا
كشفت دراسة أنماط الهجرة الثلاثة عن أمر مثير للاهتمام يتلخص بأن هجرات الجماعات البشرية القديمة عملت على نشر الأليلات المفضلة في حين كان دور الانتخاب الطبيعي هو "ضبط" تكيف التوزيعات البشرية الجديدة مع الضغوط البيئية للموطن الجديد. لتوضيح الفكرة ندرس مثال مورثة لون البشرة الفاتح:
عند خروج البشر من أفريقيا المشمسة انخفضت كمية أشعة UV التي يتعرضون لها و الضرورية لتشكيل فيتامين D، لذلك كان لا بد من الحصول على بشرة أفتح لأنها تسمح بامتصاص كمية أكبر من أشعة UV على عكس البشرة الداكنة. بناء على هذا نتوقع أن يزداد انتشار هذه المورثة كلما ارتفعنا في خطوط العرض، لكن في الحقيقة تنعدم هذه المورثة في شمال آسيا في حين تنتشر بشكل واسع جداً في شمال أوروبا.
لماذا؟
يشير توزع هذه المورثة إلى أن الأليل المسؤول عن اللون الفاتح ظهر في أسلاف الأوروبيين بعد انفصالهم عن أسلاف الآسيويين و لكن قبل هجرة هذه الجماعات إلى مواطنها الجديدة! أي أن الانتخاب الطبيعي أتى أولاً لنشر الأليل في الجماعة ثم عملت الهجرة ثانياً على نشره حول العالم.
يؤكد العلماء اليوم أن الصفات التكيفية التي تنتشر بسرعة كبيرة (5000 سنة) هي حالات استثنائية، و القاعدة العامة هي التطور طويل المدى خلال عشرات آلاف السنين (بحدود 50،000 سنة). و لكن ما الذي يفسر إذاً الانتشار السريع لصفة تكيفية ما بين البشر؟
تضافر المورثات
قد يكون السبب هو حدوث تغايرات طفيفة في تعبير العديد من المورثات المسؤولة معاً عن صفة ما، وتعتبر صفة الطول مثالاً جيداً حيث تتدخل أكثر من 50 مورثة بهذه الصفة إذ يمكن لكل مورثة أن تضيف فقط 3-5 ملم إلى طول الشخص. عندما يعمل الانتخاب الطبيعي على مثل هذه الصفات التضافرية تنتشر الصفة المطلوبة بسرعة أكبر لأن عدد الأليلات المنتخبة المسؤولة عنها أكبر.
من الصعب الكشف وفق الطرق الحالية عن هذا النوع من التطور لأننا نبحث هنا عن تغيرات صغيرة في توزع العديد من الأليلات وليس عن مورثة واحدة فقط. وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان ملاحظة التطور الوراثي الذي يجري الآن على كوكب الارض.
ما يؤكده العلماء هو أننا ما زلنا نتطور وكل الضغوط التي يتعرض لها الانسان من أمراض وتغيرات بيئية تساعد على هذا التطور. في الدول النامية التي تنتشر فيها الأمراض العنيدة كالملاريا و الإيدز لا بد أن المورثات المسؤولة عن تعزيز المقاومة الطبيعية لهذه الأمراض تتطور، لكن تطورنا التقني يفوق حتماً تطورنا البيولوجي سرعةً لذا قد نتغلب على هذه الأمراض دون الحاجة إلى التطور.
المصدر: هنا