التاريخ وعلم الآثار > منارات ثقافية
في رحابِ المدرسة الظاهرية (دار العقيقي)
المدرسة الظاهرية في دمشق هي واحدة من أهم مدارس دمشق الإسلامية التي مازالت تحتفظ بالقسم الأكبر من عمارتها وتزييناتها والتي تضم ضريح أحد أكبر وأهم الشخصيات في تاريخ الدولة الإسلامية وهو الملك الظاهر بيبرس الذي نسج حكواتي دمشق عن بطولاته وشجاعته الكثير الكثير من الحكايات لما قدمه لأهل دمشق من استقرار ورخاء وازدهار عمراني وتجاري وثقافي.
إن أول ظهور حقيقي للمدرسة كبناء مستقل لم يظهر قبل الفترة السلجوقية. وقد انتشرت في أرجاء الدول الإسلامية من المغرب ومصر إلى الشام والعراق وإيران ودول بحر قزوين وتركيا.
وقد تطور بناء المدرسة وتعددت أقسامها واختلف أسلوب تصميمها بين الدول الإسلامية لكنها في الغالب أخذت شكلاً متشابه بعض الشيء فاحتوت المدرسة على قبة ومصلى وصحن تنفتح عليه إيوانات عددها 4 في غالب المنشآت وخاصة المملوكية منها، وهي مخصصة لتدريس المذاهب الأربعة الحنبلية والحنفية والشافعية والمالكية.
أما عن مدارس دمشق فكان أقدمها المدرسة الصادرية في نهاية القرن الخامس للهجرة وثانيها مدرسة الكلاسة التي بناها نور الدين محمود بن زنكي وثالثها المدرسة العزيزية ورابعها المدرسة الفاضلية وهذه المدارس الأربعة جميعها متهدم بشكل كامل أو شبه كامل، ومن المدارس الباقية حتى الآن في دمشق المدرسة العادلية الكبرى في الفترة الأيوبية والتي كانت مقرا لمجمع اللغة العربية في دمشق حتى فترة قريبة في زقاق الملك الظاهر حاليا وأخيرا المدرسة الجقمقية التي أصبحت مؤخراً متحفاً للخط العربي.
دار العقيقي قبل أن تصبح المدرسة الظاهرية:
سميت الدار بهذا الاسم نسبة إلى الشريف العقيقي (أبو القاسم أحمد بن الحسين بن أحمد بن علي الدمشقي) الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب وهو من سادة دمشق في القرن الرابع وقد أغلقت البلد لأجل جنازته في العام 378 للهجرة وحضرها نائب دمشق وأصحابه.
وكانت دار العقيقي تحوي الكثير من مظاهر الراحة والأبهة والجمال إذْ شيد العقيقي إلى جانبها حماماً وصلت إليه المياه وأعدت فيه قناة للتصريف، وعلاوة على ذلك فقد شيد العقيقي مسجداً كبيراً فكانت داره بذلك في مرتبة القصور يأتيها الأمراء والملوك وعلية القوم حتى أن سيف الدولة الحمداني قد نزل بها ضيفاً في زيارة لدمشق.
في العهد الفاطمي اشتهرت بنزول كبار رجال الدولة وخاصةً ممن كانوا من الأشراف العلويين مثل منتجب الدولة لولو الشراوي والقاضي أبو طاهر حيدرة بن ابراهيم والشريف النصيبي والخطيب البغدادي.
وأصبحت هذه الدار فيما بعد مقراً للأسرة الأيوبية حيث سكنها نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وأخيه الملك العادل ونزل بها صلاح الدين عندما دخل إلى دمشق فاتحاً لها.
انتقلت الدار إلى فارس الدين أقطاي المستعرب الأتابك الذي كان من مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب واستمرت في أيدي ورثته إلى أن أمر الملك السعيد بشرائها لتكون مدرسة ومدفناً لأبيه الظاهر بيبرس.
تقع المدرسة الظاهرية (دار العقيقي) في زقاق يطلق عليه الآن اسم زقاق الملك الظاهر التابع لمنطقة العمارة إلى الشمال الغربي من الجامع الأموي وإلى الشرق من القلعة وفي الزقاق ذاته نجد مقابله المدرسة العادلية وما هي إلا أمتاراً قليلة من الزقاق نجد ضريح صلاح الدين وما تبقى من المدرسة العزيزية التي ضمته وخلفها مباشرةً المدرسة الجقمقية وما تبقى من آثار المدرسة الفاضلية أي أن المدرسة قد اختير موقعها لتكون ضمن مجمع ثقافي ضخم في وسط المدينة وقرب جامعها الكبير.
توفي بيبرس بعد إيعاذه بإنشاء مدرسة في دمشق بفترة وجيزة إذ لم يتسنَّ له حتى أن يبتّ في أمر مكانها ولم يشئ ابنه الملك السعيد أن ينفذ وصية والده في بناء مدفن له قرب داريا حالياً وأراد أن يكرم والده بدفنه داخل السور فابتاع داراً شهيرةً في دمشق في محلة باب البريد تدعى دار العقيقي لتكون تربة لوالده ومدرسة متكاملة تدرس فيها الشافعية والحنفية عليه، لم تنشئ المدرسة بشكل كامل من لا شيء إنما كانت بناءً مهماً تمَّ تعديله معمارياً ليصبح تربة ومدرسة للملك الظاهر حيث هُدم قسمٌ منها لتتوافق مع المتطلبات الوظيفية الجديدة للبناء،وفتحت شبابيك للبناء على الزقاق المعروف حاليا بزقاق الملك الظاهر وتم هدم الباب القديم وبناء قبة الدفن مكانه.
عمل مهندس البناء ابراهيم بن غانم على محاكاة تقريبية في بنائه والمدرسة العادلية الكبرى المقابلة له وكان مخطط البناء مع بناء دار الحديث في الزاوية الجنوبية الشرقية له شكلاً شبه مربع وذلك ما جعل مخطط المدرسة موافق للتقليد السائد في بناء المدارس الإسلامية حينها
وللمبنى واجهتين الأولى غربية تطل على شارع باب البريد آن ذاك على امتداد 32م
والثانية جنوبية على حي الكلاسة وفي وسطها المدخل الرئيسي وتمتد حوالي 13م
تتألف المدرسة الظاهرية من القبة والتربة التي نُقل إليها جثمان الملك الظاهر في 15 رجب 676 للهجرة الموافق للعام 1277 ميلادي ليلاً (خوفاً من انتشار خبر موت الظاهر واستياء العامة حيث أنه من غير المستحب أن تنقل الجثة بعد دفنها).
1- القبة والضريح:
وتتألف القبة من دورين من الجدران ذات الشكل الثماني في الدور الأكبر (السفلي) نلاحظ وجود 4 أزواج من الشبابيك ذوات القناطر في الأعلى، وهذه الأزواج توزعت بالتناوب على الجدران الثمانية.
أما الدور الثاني من الجدران فقد احتوي على 8 أزواج من الشبابيك ذوات القناطر المدببة، ثم نجد فبة ملساء تنتهي إلى تفاحتين وهلال بارتفاع يصل إلى 30 م وتكون هذه القبة بذلك ثاني أعلى قبة في دمشق بعد قبة النسر.
أما الجدارين أسفل القبة فلها نوافذ دائرية صغيرة مزينة من الخارج بعنصر زخرفي عبارة عن 8
مجموعات دائرية متداخلة وهذه المجموعات تتألف الواحدة منها من 4 دوائر متحدة المركز.
وقد بنيت هذه القبة للدلالة على وجود ضريح الظاهر بيبرس أسفلها.
كسي الضريح بالمرمر الأبيض وشابه في شكله الداخلي الأضرحة الإسلامية في الفترات السابقة حيث يوجد موشور مثلثي على طول الضريح وإلى جانبه دفن الملك السعيد حيث كان لضريحه شكل مشابه وهناك لوحة أمام كل منهما مكتوب عليها اسم صاحبه
2- مدخل المدرسة:
أبعاد المدخل فهي تقارب 4 م عرضاً وارتفاعه 10 م وفي عمق 2 م له باب كبير خشبي ذي درفتين مفتوح على الغرب، وكما البناء حجري فالمدخل أيضاً من الحجر وفيه تناوب بين اللونين الأبيض والأسود في حلية تزيينية جميلة. وتحوي هذه الأشرطة كتابات نقش بخط النسخ على أحدها أوقاف المدرسة التي كانت كثيرة نسيباً وعلى آخر الكتابة التالية:
((بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بإنشاء هذه التربة والمدرستين المعمورتين، المولى السلطان السعيد أبو المعالي محمد بركة قان بن السلطان الشهير الملك الظاهر المجاهد ركن الدين أبي الفتوح بيبرس الصالحي. أنشأها لدفن والده الشهير، ولحق به عن قريب، فاحتوى الضريح على ملكين ظاهر وسعيد. وأمر بإتمام عمارتها السلطان المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الصالحي قسيم أمير المؤمنين خلد الله سلطانه)). وفي الزاوية اليسرى يظهر في حنية اسم المعماري الذي هندس البناء ابراهيم بن غانم
وفي الأعلى قبة مشكلة من مقرنصات وحنيات ضحلة وعقود مدببة ومركبة.
3- الباحة:
وهي فناء مكشوف طوله 18م وعرضه 12م ويتوسطه بركة ذات عشر أضلاع وهي بمثابة مركز للمخطط المعماري وموزع بنفس الوقت.
4- قاعة الضريح:
تقع قاعة الضريح إلى يمين الداخل إلى المبنى وقد بنيت بمنسوب أعلى بدرجتين وفي أعلى الباب ذُكر بنقش على حجر أبيض أوقاف المدرسة مرة أخرى وأعلى الحجر توجد لوحة تذكر تحويل المدرسة إلى مكتبة عامة في عهد والي دمشق حمدي باشا.
في صدر القاعة محراب للصلاة وفي وسطها الضريحان وفيما يتعلق بالتزيينات للقاعة ما يشابه الأواوين لكنها أصغر ومسدودة أقيمت لأغراض جمالية وقد زينت القاعة بلوحات فسيفساء ملونة على طول الإطار العلوي للجدران وفيها تظهر رسومات طبيعية لأشجار تشابه فسيفساء قبة الجامع الأموي وتصوير لمآذن لا يمكن تفسيرها على أنها مآذن دمشق كما في الأموي إذ أن تكرارها بتناظر دقيق للغاية ينفي احتمال تصوير واقعي لدمشق ويرجح الغرض التزييني.
5- الإيوانات:
الإيوانات عددها 4 ولكن انثان منها فقط خصصا للتدريس وفي كل منهما محراب صغير للصلاة وهي تتلاءم وشكل المخطط المعماري التقليدي للمدرسة الإسلامية رغم بساطتها.
الإيوان الأول:
مستطيل الشكل ويقع في شرق التربة يوجد الإيوان الذي خصص لتدريس المذهب الحنفيّ.
الإيوان الثاني:
مربع الشكل يقع في شرق الفناء يقع الإيوان الشرقي المخصص للتدريس المذهب الشافعي.
6- دار الحديث:
وكانت تقع في الزاوية الجنوبية الشرقية بين الإيوانين القبلي والشرقي ولم يبقَ منها شيء يذكر.
7- الجزء الشمالي:
يتوقع أنه يحوي إيوان مقابل وغرف للإقامة حسب ما ذكر كتاب النجوم الزاهرة حول شروط الملك السعيد عند شرائه لدار العقيقي.
استمر المبنى في أداء وظيفته الأصلية حتى بدايات القرن الثالث عشر حيث بدأت تفقد مكانتها شيئاً بعد شيء والسبب في ذلك هو إهمال أوقافها فطالها الخراب والتدمير وخاصة الجزء الشرقي الملاصق للحمام، إلا أنه في أواخر القرن التاسع عشر أعيدت إلى الحياة بفضل حب والي دمشق للعلم والعمران فكان الأمر أن أشارت عليه الجمعية الخيرية التي أسسها لخدمة العلم إلى ضرورة جمع الكتب والمخطوطات في مبنى واحد حرصاً عليها وعليه أصبحت داراً للكتب بعد عمليات تأهيل وصيانة قامت في تلك الفترة.
لم تهتم أياً من الحكومتين الفرنسية أو الإيطالية في فترات لاحقة بترميم المباني الإسلامية بشكل عام أما عن آخر النشاطات الآثرية فيه فقد عمدت الحكومة مؤخراً إلى ترميم الظاهرية بهدف إعادة إحياءها كمركز ثقافي في برنامج وضعته وزارة التعليم العالي بالتعاون مع قسمي المكتبات والآثار في جامعة دمشق ومع حكومة كزاخستان بالنسبة للتكلفة الباهظة للمشروع. الجدير بالذكر أنه أثناء ترميم تصدعات القبة والحزام الصدفي في قاعة الدفن عثر تحت الشكل المعروف سابقاً للضريحين والذي كان من الرخام الأخضر المذهب على شكل مختلف تماماً للضريحين وهو الموشور الأبيض المثلثي فاجتمع المرممون على الإبقاء على الشكل المملوكي الأصل ورفع التعديلات العثمانية من عليهما.
المصادر :
-(1) توارو، بيتر، الظاهر بيبرس اسهام في تاريخ الشرق الأدنى في القرن الثالث عشر، ترجمة جديد، محمد، الطبعة 2، دمشق 2002.
(2) الموسوعة الحرة ar.wikipedia.org
(3) النعيمي، عبد القادر بن محمد، الدارس في تاريخ المدارس، دمشق 1948-1951.
(4) ابن تغري،بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، المجلد 7، تعليق شمس الدين، محمد حسين، بيروت 1992.
(5) طقوش، محمد سهيل، تاريخ المماليك في مصر والشام، القاهرة 1997.
(6) www.egyptsons.com
(7) ابن كثير: البداية والنهاية،تحقيق: التركي، عبدالله عبد المحسن، المجلد11، القاهرة 1998.
(8) غنام، سميحة: دار العقيقي المكتبة الظاهرية، مجلة مهد الحضارات، العدد 5، دمشق 2008.
(9) الأمين، محسن: أعيان الشيعة، تحقيق: الأمين، حسن، المجلد 9، بيروت 1983.
(10) هنا
(11) هنا
(12) Hillenbrand، Robert، Islamic Architecture، NewYork 1994.
(13) بهنسي، نسيب، جمالية الفن العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1979.
(14) حسن، عزة، المدرسة الظاهرية دار الكتب الظاهرية، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد 82 الجزء 1.
(15) هنا
(16) هنا
(17) موسوعة الفن الإسلامي
(18) هنا
(19) هنا
(20) العلبي، أكرم حسن: آثار مملوكية في دمشق، مهد الحضارات، العدد 17-18، دمشق 2013.