في ذكرى غياب درويش

أي الأبواب سنقرع لندخل عالم محمود درويش، أي الكلمات سنستحضر لنتكلم عن شاعر بقامة وطن، أي العبارات يمكن أن تسعفنا، وكل ما فيك يا محمود جميل!؟

هذه الكلمات ليست تعريفاً بمحمود درويش، فمن يعرّف بصاحب (أحن إلى خبز أمي)!؟، هذه بطاقة حب وشوق للرجل الأنيق الذي طالما أيقظ فينا الإحساس بالوطن وبالأرض وبالحبيية حتى نكاد لا نفرق بينهم، همسة تذكارٍ نبثها في فضاء اللازورد علّها تصل إليك يا محمود في عالمك الأبيض وتخبرك عما نقاسيه من سواد على أرض المحبة والسلام.

الاستشناء هو القاعدة في حياة شاعر فلسطين الأول، فعلى مدار 67 عاماً عاش فيها محمود درويش بدءاً من المولد في الـ 13 من آذار عام 1941 في قرية البرّوة في الجليل وختاماً في الـ 9 من آب من عام 2008 في تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، مروراً بالعديد من العواصم العربية والأجنبية، مثل بيروت، دمشق، موسكو، القاهرة، تونس وباريس. محمود درويش لم يرد هذه التنقلات الكثيرة في حياته ولكن الظروف كانت غالباً ما تجبره على تغير مكان إقامته وفي بعض الأحيان كانت المبادئ هي ما يفعل ذلك.

تزوج محمود درويش مرتين: الأولى عام 1973 من رنا قباني ابنة أخ الشاعر نزار قباني ودام الزواج ثلاث سنوات وفي المرة الثانية تزوج من حياة الهيني عام 1984 وأيضاً لم يستمر الزواج طويلاً ربما لطبيعة الشاعر وعدم قدرته على التوفيق بين مؤسسة الزواج وبين هموم الشعر والكلمات، وللعلم فإن درويش كان يرفض دائماً فكرة إنجاب أي طفل وكان يقول بأنه لا يريد لابنه أن يولد بلا وطن.

جاء ديوانه الأول عام 1960 باسم "عصافير بلا أجنحة" كباكورة أعماله، إلا أنه لم يشأ أن يُنشَر فيما بعد مع أعماله الكاملة لعدم رضاه عنه، على الرغم من الأشعار الجميلة التي فيه، وللشاعر أكثر من أربعين مؤلفاً ترجمت لأكثر من 22 لغة تبدأ من الديوان الأول "أوراق الزيتون" عام 1964، وتبعه فيما بعد ديوان "عاشق من فلسطين" عام 1966 وتنتهي بديوان (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي) عام 2009 والذي نشر بعد وفاته، أسس درويش بينهما مدرسةً شعريةً فريدةً في الأدب العربي الحديث ويعتبر شعر درويش همزة الوصل بين قديم الشعر العربي وحديثه فهو أعاد بتجربته تلخيص كل الشعر العربي الحديث كما فعل المتنبي بقديم الشعر، ويذكر له أيضاً رمزية شعره وعمقه الفلسفي الكبير وخاصةً في الدواوين الأخيرة (التي يسميها النقاد مرحلة ما بعد الجدارية)، حيث أصبح شعره ليس بالشعر السهل فلكي تصل إلى ما يريده محمود من قصائده عليك أن تكون مثقفاً جيداً وكلما ارتفعت درجة ثقافتك أخذت منه أكثر.

لا يمكن أن نذكر شعر محمود درويش من دون أن نتطرق للحديث عن مارسيل خليفة الذي لحّن شعر درويش وأوصله إلى كافة فئات المجتمع وكان مارسيل يرافق درويش في الكثير من أمسياته الشعرية ويقول مارسيل عن شعر درويش بأنه لا يلحنه ولكنه يخرج الألحان التي أودعها الشاعر في القصائد.

لمحمود درويش موهبة فريدة جداً في إلقاء شعره، والاستماع للشاعر وهو يلقي قصائده متعةٌ ما بعدها متعة، وهي تجربة تظهر لك خفايا لا يمكن أن تصل إليها إذا قرأت القصيدة بنفسك.

كان صبي البروة مشغولاً بالوطن وربما من هنا جاءت علاقته بالسياسة، فهو لا يريدها ولكنه يراها أداة لتحقيق حلم الوطن الجميل، وهذا ما جعله ينتسب إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وهو من كتب نص وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر عام 1988 والتي قرأها ياسر عرفات القائد الذي كان يعتبر محمود درويش ابناً له وكانت تجمع بينهما علاقة قوية، ولكن درويش لم يكن راضياً عن كل أفعال القائد وكان يمثل دور الابن العاق.

جاء طلاق محمود درويش للسياسة نهائياً بعد اتفاقية أوسلو عام 1993 والتي اعتبرها اتفاقية أمنية بامتياز تخدم العدو ولا تمثل تطلعات الفلسطينين.

ولدمشق، كبيروت، وغيرها من أوابد وحواضن الشعر في هذا العالم حصة من شعر درويش، فيقول:

في دمشق

يواصل فعل المضارع أشغاله الأموية

نمشي إلى غدنا واثقين من الشمس

في أمسنا

نحن والأبدية سكان هذا البلد

في دمشق

نرى كيف ينقص ليل دمشق

رويداً رويداً

وكيف تزيد إلهاتنا واحدة

(من قصيدة في دمشق)

ومن بين المفارقات العجيبة في حياة هذا الشاعر العظيم أنه بدأ مشواره الفني رساماً، وبسبب الفقر الذي كان يعيش فيه تحايل عليه أهله لتوجيهه للكتابة كي يتخلصو من عبء شراء الأقلام والألوان الكثيرة ليصبح بعدها محمود درويش أحد أفضل من رسموا بالكلمات أجمل اللوحات على مر العصور.

خسر الموت التحدّي أمام محمود درويش الذي خاطبه قائلاً:

لا تُحَدِّقْ

يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقْطَةَ

الضعف الأَخيرةَ. أَنتَ أَقوى من

نظام الطبّ. أَقوى من جهاز

تَنَفُّسي. أَقوى من العَسَلِ القويّ،

ولَسْتَ محتاجاً -لتقتلني- إلى مَرَضي.

(من قصيدة جدارية)

أبى الموت إلا أن يغتال هذا القلب الذي أبدعَ أيّما إبداع! حيث لم يستفق محمود من عملية القلب المفتوح التي أُجريت له في إحدى المشافي الأمريكية، وأُعلن موته سريرياً وتم فصل أجهزة الإنعاش عنه بعد 24 ساعةً من خروجه من العملية وفقاً لوصيته، وبعد أيام قليلة، عمدت الفنانة ماجدة الرومي لتخليد ذكراه وفكر السلام الذي كرّس حياته وشعره لنشره ببعضٍ من أجمل ما قال من الكلمات التي تدعو للسلام والمحبة، هي نفسها قصيدته التي ألقاها في فلم "هوية الروح" جنديٌّ يلحم بالزنابق البيضاء.. وقد أسمتها ماجدة الرومي بـ"نشيد السلام".

في ذكرى رحيلك السابعة يا جميل لا يسعنا إلا أن نقول أننا في شوقٍ لك، في شوقٍ للرجل النبيل، خفيف الظل، اللّماح، صاحب النكته، ذو القسمات الصارمة والتي تخفي خلفها براءة طفل يحلم بوطن يشبه حضن أمه.

ستبقى أيها العزيز بعين ولحم محبيك أحلى ملاك.

نترككم مع الراحل:

لاعب النرد

درس من كاماسوطرا

الجميلات هن الجميلات