الطبيعة والعلوم البيئية > علم الأرض
وصفة جديدة لتشكل قشرة الأرض القديمة
تشكلت قارات الأرض من خلال عملية تشبه إلى حد ما عملية التقطير التي تفصل البنى الغنية بالسيليكا* الطافية عن المواد ذات الكثافة العالية، واليوم تعتبر هذه العملية الجيوكيميائية المسبب الأكبر لتشكل الصفائح التكتونية**، وتدعى العملية بالغوص أو الاندساس، حيث تغرق الصفائح الباردة الكثيفة إلى باطن الأرض مما يحرض على تكون الماغما التي تتمايز إلى قشر قارية جديدة. على أية حال، فإن المدى الزمني لتأثير هذه الصفائح التكتونية غير واضح مما يجعل إعادة محاكاة نمو القارات في الأرض أمراً صعباً.
أشار الباحثون إلى اكتشاف بعضٍ من أقدم بقايا القشرة القارية على الأرض، وأوضحوا أنه وعلى خلاف الماغما (التي تكونت فيما بين مناطق الغوص) فإن هذه البقايا تبلورت من الماغما التي نتجت على أعماق ضحلة (غير عميقة) والتي شكلت النواة القارية الأولى للأرض، أما الطبقة المركزية للأرض (طبقة الكعكة) فقد تشكلت أثناء وبعد وقت قصير من تشكل الكوكب، وذلك عندما انفصل اللب المعدني و المواد السيليكونية الغنية بالمعادن المتصلبة إلى غلاف وقشرة صخرية رقيقة. سواءً كانت هذه القشرة بازلتية وبالتالي مشابهة لقشرة المحيطات في وقتنا الحالي، أم كانت غنية بالسيليكا نسبياً و أقرب ما تكون إلى القشرة القارية فهذا أمر غير محسوم بعد، وهذا يعود بشكل كبير إلى أن السجل الجيولوجي للأرض القديمة غير موجود والذي يضم مئات الملايين الأولى من تاريخ الأرض، يدعى هذا السجل بـ "هاديس" نسبةً إلى الشخصية الأسطورية الإغريقية التي يعني اسمها "الغير مرئي أو الغائب". إن ما نجى من هذه الحقبة عبارة عن بلورات معدنية مفردة من الزيركون المرن والتي تشكلت كمخلفات للمياه القديمة في الطبقات الرسوبية الأحدث، حيث هوية ومحتويات طبقة الصخور الأم لهذه البلورات تائهة في غياهب الزمن.
لنفهم ما سبق أكثر عكف العلماء على دراسة صخور القشرة القارية في كندا والتي وجدت مشابهة لها في إيسلندا بفضل دراسة البراكين، وسنعرف بم يفيد ذلك بعد قليل. عادةً ما تخبرنا مواقع البراكين بما في جوف الأرض، وقد أُخذ ثوران بركان فيموفورهالس Fimmvörðuháls في إيسلندا*** مثالاً؛ حيث توجد تحت إيسلندا تيارات من مواد الغلاف الأرضي تتصاعد عبر الصدع المتكون بين صفيحتين تكتونيتين مما يسبب انفجارات ضخمة من الماغما على السطح وقشرةً سميكة. أظهرت نتائج الأبحاث هناك أن بعض الصخور البلورية القارية بعمر 4 بلايين عام والمكتشفة في المناطق الشمالية الغربية الحدودية من كندا، تملك طابعاً جيوكيميائياً مشابهاً للصخور في إيسلندا مما يشير إلى أن القشرة القارية للأرض الأولى قد تشكلت بطريقة مشابهة لما يحدث في إيسلندا.
من أهم الصخور المشكلة للقشرة القارية في كندا صخر يدعى النيس Gneiss: وهو من أقدم الصخور القارية الصوانية الرمادية التي تشكلت في العصر الآراكي قبل 2.5 – 4 بلايين عام، لكنها للأسف مزيج من مكونات تشكلت على فترات مختلفة (مما يجعل تحديد عمرها أكثر تعقيدا) وتتكون أيضاً من الكثير من المعادن المنصهرة الأصلية التي تحورت لاحقاً كالزيركون. رغم كل ذلك فإن "النيس" يكشف القليل من أسرار تكون الأرض، فكيف ذلك؟
- كيف اكتـُـشف أن تولد القشور القارية تم على أعماق غير كبيرة؟
يحمل النيس طابعاً جيوكيميائياً يشير إلى أنه تشكـّل على عمق بسيط يزيد عن 35 كم. بالمقابل تشكلت الماغما والتي تملك مكونات جيوكيمائية مماثلة عميقاً جداً داخل مناطق الغوص. هذا التشابه قاد للاعتقاد بأن الصفائح التكتونية كانت نشطة خلال العهد الآراكي وأن مناطق الغوص كانت تولد القشرة القارية خلال تلك الحقبة (كما أسلفنا في بداية المقال)، لكن النيس المكتشف في المناطق الحدودية الكندية أطاح بهذا الاعتقاد. حيث أن القدم الشديد لـ النيس الكندي (أكثر من 4 بلايين عام) والذي حدد باستخدام نظائر اليورانيوم المشع كوسيلة لتأريخ بلورات الزيركون فيه، وبالمقارنة مع الصخور الآراكية الغنية بالسيليكا فإنه -النيس الكندي- يتمتع بما يلي:
- غني بشكل مفاجئ بالحديد مع محتوى منخفض من الألومينيوم؛
- يملك مجموعة مختلفة من عناصر الأرض النادرة؛
- يحمل الزيركون فيه طابعاً نظائرياً حيث أنه فقير بالنظير 18 للأوكسجين.
تفيد هذه الميزات بأن:
- النيس الكندي لا ينتمي إلى صفات بيئات الغوص البعيدة حيث الماغما؛
- تحوي الماغما الأم صخوراً قشرية موجودة سابقاً والتي نتجت من ترشيح الماء السائل على درجة حرارة مرتفعة؛
- يوجد غلاف مائي للأرض وقد تم نضج الماغما والسوائل الساخنة على أعماق ضحلة غير بعيدة.
الماغما الغنية بالسيليكون والحديد وذات المحتوى المنخفض من الاوكسجين 18 نادراً ما تتواجد على سطح الأرض، لكن كيف وصل النيس الذي يتمتع بهذه الصفات إلى السطح. من المرجح أن يكون قد تشكل بطريقة مشابهة لما يحدث في إيسلندا في يومنا الحالي، حيث يتدفق تيار متصاعد من مواد الغلاف إلى الصدع بين صفيحتين تكتونيتين مسبباً تدفق كميات كبيرة من الماغما.
يعتبر النيس الكندي قطعة ثمينة لحل لغز تكون الأرض الأولى ورغم ذلك فما زال حل هذا اللغز بعيداً كثيراً عن الاكتمال. على سبيل المثال، كانت الأمواج المتقلبة التي سببت تصاعده للسطح في كندا شائعة في الغلاف البدائي النشط للأرض، بالتالي فمن غير الواضح لما لا يشكل النيس الغني بالحديد أجزاءً كبيرة من القشرة الأراكية اليوم. ربما كان السبب أحد الاحتمالين:
- تآكل هذه الصخور وبالتالي عدم ملاحظتها في مناطق أخرى من العالم؛ أو
- أن الصخور التي تشكلت فوق تموجات الغلاف القديم ما زالت موجودة، لكن طوابعها الجيوكيميائية تحولت لاحقاً مع الزمن.
عرف الباحثون خصائص الصخور القديمة في كندا والتي تحفظ جزءاً من السجل المبكر لتشكل القشرة القارية على أعماق ضحلة فوق الأمواج المتقلبة من مواد الغلاف الأرضي، والتي تتشابه مع وضع إيسلندا في يومنا الحالي.
قد تدرس الأبحاث المستقبلية فيما إذا كانت صخور النيس الكندي تحتفظ بأي آثار لقشرةٍ قارية أكثر قدماً، كما أن نسبة النظائر المشعة للزيركون المؤرخ في هذه العينات قد يجيب على هذا السؤال. قد تحسن أيضاً التحاليل الجيوكيمائية الأعمق معرفتنا لبدء عملية التقطير على سطح الأرض بشكل دقيق وكيف يمكننا التعرف على آثارها البدائية على كواكب اخرى.
(*) السيليكا: هو ثنائي أكسيد السيليكون المعروف بقساوته منذ العصور القديمة. يوجد في الطبيعة في الرمل والكوارتز، وهو مكون أساسي في معظم أنواع الزجاج والمواد مثل الخرسانة.
(**) التكتونيات: هي الفرع العلمي ضمن حقل الجيولوجيا والذي يهتم ببنية القشرة الأرضية أو قشرة بقية الكواكب، إضافة للقوى والحركات التي تحدث في مناطق معينة من القشرة الأرضية لتخلق بنية جديدة أو ظواهر جيولوجية مثل الزلازل و البراكين
(***) إيسلاندا: دولة أوروبية عبارة عن جزيرة في الحافة الشمالية للمحيط الأطلسي تقع غرينلاند بينها وبين كندا.
اقرأ المزيد بالعربية من هنا:
المصدر:
الصورة: