الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
البحث عن أصل مادة الكون - تالس
كتير من الأدبيات الأسطورية القديمة، والثقافات الدينية السماوية والأرضية، تناولت الماء كمبدأ للكون سابق على أي مادة تانية، أي أنها تناولت الماء على أنه المادة الأصل لكل المواد الأخرى الموجودة في الكون، ولكن أن نجد مثل تلك الفرضية في الفلسفة اليونانية القديمة، والتي سبقت بهذه الفرضية الكثير من تلك الثقافات الدينية بزمن ليس باليسير، فهذا ما سنتعرّف عليه من خلال المقال التالي:
تالس أو (طاليس الملطي) (624 -550 ق. م) فيلسوف ورياضي إغريقي صاحب نظرية تالس في الرياضيات المشهورة، ينتمي للمدرسة الأيونية كما ذكرنا في الحلقة السابقة، وهي المدرسة التي بحثت عن أصل الكون في المادّة وليس في القوى الغيبية الخارقة، فما هو أصل العالم والمادّة التي تكوّن منها كل ما في الوجود بحسب رأي تالس؟
قبل أن نذكر مادّة الكون الأولى عنده يجب أن نوضّح ماذا نعني بالمادّة الأولى، أو كما تسمّى في الفلسفة (الجوهر)، فالجوهر هو ما تنشأ عنه المواد الأخرى وترتدّ إليه، وهو غير قابل للفساد، ولا إلى أن يستحيل عدماً، بل إن كل المواد الأخرى التي تنشأ عنه يمكنها أن تتحوّل من شكل لآخر، أما الجوهر فثابت في وجوده ويمنح كل العناصر الأخرى وجودها، وإلى صورته هو تعود كل الأشياء في صورتها النهائية.
دعونا نضرب مثالاً: إذا أخذنا على سبيل المثال "التراب" واعتبرناه جوهراً، أليس من الممكن أن يصبح التراب نباتاً أو حيواناً أو إنساناً؟ نعم بالتأكيد وذلك مشاهد بكل لحظة، وكذلك فهذه الكائنات سترتد إلى صورة التراب مرّة أخرى، بالتالي يمكننا اعتبارها صوراً للتراب وليست جوهراً بذاتها، بينما التراب هو الذي يمكن أن نطلق عليه (جوهر)..
لنعد الآن إلى فيلسوفنا " تالس"، فقد رأى هذا الفيلسوف أن "الماء" هو الجوهر الأول، ومادّة الكون الأولى، التي منها وإليها ترتد جميع العناصر الأخرى في الكون.
و من الجدير بالذكر هنا أن نشير إلى أن تلك الفرضية لم يختصّ بها تالس وحده، على الرّغم من أنه سبق بها بعض النصوص الدينية والفلسفية الأخرى، ولكن أيضاً سبقه بها بعضهم ؛ على سبيل المثال :
1 – الأسطورة البابلية التي تقول: (في البدء، قبل أن تسمّى السماء وأن يعرف للأرض اسم، كان المحيط وكان البحر)
2 – في الثقافة الفرعونية: (في البدء كان المحيط المظلم أو الماء الأول، حيث كان أتون وحده الإله الأول صانع الآلهة والبشر والأشياء)
3 – في التوراة: (في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خاوية خالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرف على وجه المياه)
4 – في الكتاب المقدّس " وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة "
5- في القرآن الكريم (في سورة هود) : "وهو الذى خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء " والجدير بالذكر هنا أن الفيلسوف العربي " ابن رشد " قد فسّر هذه الآية أن الكون بمادّته والتي هي الماء مساوق (متزامن) في الوجود من حيث الأزلية لوجود الله، أي أن الله لم يوجِد الكون من العدم المحض، بل خلقه من مادّة موجودة وجوداً أزليّاً ليس له بداية ولم يسبقه عدم، بدلالة الآية الكريمة السابقة (راجع كتاب ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال)
أما الفيلسوف تالس فلم يكتف بتقرير هذه الفرضية، بل حاول البرهنة عليها تجريبيّاً من خلال المنهج الاستقرائي اعتماداً على المشاهدة الحسيّة .
إذن؛ فالسؤال هو: لماذا اختار تالس الماء كمبدأ أوّل؟ وبأي عملية يمكن للماء في رأيه أن يتغير إلى الأشياء الأخرى؟
يرى تالس أن لا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة إلا في كمية الماء التي يتركّب منها كليهما، ثم إن الماء يستحيل إذا تبخّر إلى غاز، وإذا بقي على حاله كان سائلاً، وإذا تجمّد استحال صلباً، والنتيجة أن كل ما في الوجود لا يخرج عن إحدى تلك الصور الثلاث.
و قد ذهب تالس أبعد من ذلك، فافترض أن الأرض ما هي سوى قرص متجمّد يطفو فوق ماء.
و أيضاً فمن براهين تالس على أن الماء مبدأ الأشياء جميعاً، أنه استنتج هذه الفكرة من مشاهدته أن أساس كل الأشياء هو الرطوبة، حتى الحرارة فهي تولَّد من الرطوبة وتستمر بها، فاستقى فكرته من هذه الحقيقة، ومن حقيقة أن بذرة كل شيء هي ذات طبيعة رطبة، والماء هو أصل المواد الرطبة.
هل الماء هو بمثابة الإله بالنسبة لتالس؟
الجواب بحسب ما نقله إلينا " أرسطو " أنّه (نعم)، وهو كمعظم اليونانيين يعتقد أن الروح هي سبب كل الحركات، حتى تلك التي للجماد، وبالتالي طالما أن هناك حركة لابد وأن يكون هناك روح مسببة لكل لحظة من الحركة، وبعدها يخطو تالس خطوة أبعد ليستنتج أن الروح أو سبب الحركة هي إله أو الإله، ويتعقد أن هذا هو معنى قوله بأن كل الأشياء مليئة بالآلهة، لأن كل جزء من الحركة في مدة زمنية ما يجب أن يكون هناك روحا أو إلها يسببها.
إن السبب في تعريفه للماء على أنه إله هو لأنه يعتقد أن كل ما هو خالد فهو مقدس أو إله، بالتالي وبما أن الماء خالد فإن الماء لابد أن يكون إلها، وهذا يبدو منطقياً، عندما سُئل تالس ما هي الألوهية؟ قال: "ما ليس له بداية ولا نهاية"، لذلك يعتقد تالس بأن الماء ينتشر عن طريق العقل أو الإله، الذي هو القوة المحركة وراء تحول الماء إلى كل الأشياء، وبكلمات أخرى الماء هو روح كل الأشياء.
قبل أن نختتم حديثنا عن تالس سنذكر بعض النقاط عن هذا الفيلسوف الحكيم:
1 - يقال أن تالس تنبّأ بكسوف الشمس الذي حصل عام 585 ق.م، وأن نبوءته تلك كان لها الأثر على وضع أوزار حرب كانت دائرة بين الليديون والميديائيون، ولكن الغريب بالأمر كيف يمكن لرجل يعتقد أن الأرض قرص مسطّح أن يتنبأ بالكسوف؟
2 - كان تالس يعتقد أن المغناطيس يمتلك روحاً تجذب إليه الحديد، وهذا أيضاً مستهجن بالنسبة لشخص كتالس يمتلك طريقة تفكير علمية.
3 - لطالما سطّر البابليون والفراعنة الأساطير حول الماء وألوهيته وعظمته، فلا يمكن التسليم بالادّعاء الغربي المتعجرف أن تالس هو صاحب الفرضية الأساسية تلك، ولكن الجديد في فكر تالس أنه قدّم تفسيرات منطقية لكون الماء يحمل احتمالية أن يكون أصل الوجود، وهو منهج استقرائي مختلف عن المنهج الأسطوري عند البابليين والفراعنة.
4 – يقال أن تالس قد ساهم في مساعدة الفراعنة على قياس ارتفاع الأهرامات، عن طريق قياس نسبة طول الشيء لظلّه، فقد كان تالس عالم رياضيات بجانب الفلسفة.
و في الختام: طرفة يذكرها المؤرخ اليوناني " ديوجين " عن تالس، أنه كان يسير مع امرأة عجوز يتأمل السماء ونجومها، فسقط في بئر، فأخذ يطلب النجدة، فقالت له المرأة " أنّى لك يا تالس أن تعلم كل شيء عن السماء ولا ترى ما تحت قدميك؟ "
...
تكلّمنا في هذه الحلقة عن الفيلسوف اليوناني تالس... في الحلقة القادمة سنتكلّم عن الفيلسوف اليوناني (أنكسمندر) وسنستعرض آراؤه التي خالف بها استاذه تالس...
تابعونا في هذه السلسلة لتتعرفوا أكثر فأكثر عن الفلسفة اليونانية، فلاسفتها ونظرياتهم..
(هذه السلسلة تصدرها مجموعة الفلسفة في الباحثون السوريون بإشراف الأستاذ زاهر رفاعية، الباحث في العلوم الإنسانية، والمنسق العلمي لفريق الفلسفة في الباحثون السوريون )
و تحت شعار: العلم هو الحل .
المصادر:
1- انتوني جوتليب: حلم العقل، ترجمة محمد طلبة نصّار، نشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى، 2014، ص 25 – 28.
2 – يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، 1936. ص12- 14.
3 – د. عزت قرني: تاريخ الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، جامعة الكويت، 1993، ص 24 – 25.
5 - أحمد أمين، زكي نجيب محمود: قصة الفلسفة اليونانية، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، القاهرة، الطبعة الثنية، 1935، ص 19 – 22.
6 - وولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1984، ص 29 – 33.
7 – د. ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الولى، 1991، ص 15 – 17.
8- هنا
مصدر الصورة: هنا