البيولوجيا والتطوّر > التطور
تقنية جديدة لدراسة العظام تعيد كتابة حقبة ما قبل التاريخ
خلال قرنٍ من الزمن، تناقش العلماء حول ماهية العلاقة بين انسان النياندرتال Neanderthals* والانسان الحديث (أي البشر)، وعن السبب الذي أدى إلى موتهم، لكنهم وخلال هذه الفترة كانوا دائماً ما يصلون إلى طريقٍ مسدود. أما اليوم وبفضل تقنية قياس النشاط الإشعاعي للكربون المشع فإن العلماء قد يكشفون الكثير من التفاصيل الغامضة عن هذه الأشياء..
لكن، وقبل أن ننطلق في رحلةٍ للتعرف على ما توصل له العلماء، لابد أن نلقي نظرةً على تقنية قياس النشاط الإشعاعي للكربون المشع** لتحديد عمر العينة المدروسة، ولذلك سأكتب شرحاً لها في الحاشية، فإن أحببتم اطلعوا عليها كونها المفتاح في ما أنتجته أبحاث العلماء أو فلتكتفوا بهذا الشرح البسيط لها: إنها، ودون تعقيد، طريقةٌ تعتمد على نظير الكربون المشع، بحيث يدل انخفاض نسبته على أن العينة التي ندرسها قديمة والعكس صحيح. هذا ليس كلاماً علمياً دقيقاً جداً لكن ليس معقداً ويكفي لنفهم الاكتشاف الذي نحن بصدده.
تبدأ القصة مع علماء من جامعة أوكسفورد حيث أنهم وبدراسة عمر 196 من البقايا العضوية باستخدام التقنية المعتمدة على الكربون المشع، حددوا أنّ انسان النياندرتال قد اختفى من أوروبا منذ حوالي 40 ألف سنةٍ، أي بعد بضعة آلاف سنة من وصول الإنسان إليها وهذا دليلٌ أنهم –النياندرتال والبشر- قد عاشوا مع بعضهم فترةً من الزمن من وجهة نظر الباحثين.
هل هذا كل شيء؟ لا، في الواقع فإنّ التقنية التي ذكرناها تكون فعالة لما يصل إلى 50 ألف سنة في تحديد عمر شيء ما، ولكن في الواقع فبعد أكثر من 30 ألف عام فإنّ %98 من الكربون المشع سيكون قد اختفى وستبدأ جزيئات كربون جديدة بالدخول، مما سيجعل العينة المدروسة تبدو أصغر عمراً مما هي عليه فعلاً، أي أنها ستفقد دقتها قليلاً. لكن، وكما ترون، فنحن نتحدث عن 40 ألفاً، إذاً، ماذا فعل العلماء حيال ذلك؟!
طوّر العلماء هذه التقنية لجعلها قادرةً على التعامل مع أشياءٍ تعود لحوالي 55 ألف سنةٍ، وذلك عن طريق تنقية العينة من الشوائب (الجزيئات الجديدة) كيميائياً، والعينة التي نقصدها هنا هي ألياف الكولاجين الموجود في العظام، ومن ثم قاسوا كمية المادة المشعة القليلة المتبقية في العينة.
باستعمال هذه الطريقة، توصلوا إلى أنّ البشر حطوا رحالهم في إنكلترا وإيطاليا منذ أكثر من 40 ألف عام.
وعند تطبيق هذه الطريقة على بقايا النياندرتال وأدواتهم نجد أنّها جميعاً قد اختفت منذ (39-41) ألف سنة، مما يقدم تحدياً للمعطيات القائلة بأنّ النيادرتال قد نجوا باللجوء إلى شبه الجزيرة الإيبيرية (اسبانيا والبرتغال الحاليتين) حتى فترة ما قبل 28 ألف سنة من الآن.
إذاً فقد وصل البشر إيطاليا منذ 45 ألف سنة حيث قاموا بصناعة العديد من الأدوات الحجرية، وبالتالي فإنّ التقديراتٍ تشير أنهم كانوا في نفس المناطق مع النياندرتال لـ 5400 سنة في جنوب أوربا (وأقل بكثير في باقي المناطق)، كما تدعم الفكرة التي تدعي أنّ بعض أدوات النياندرتال التي ظهرت منذ 40 ألف سنة كانت نتيجة التفاعل مع البشر.
ما هو رأي باقي العلماء في هذا الاكتشاف الجديد؟ بعضهم وافق على هذا الموضوع، خاصة من يدعم فكرة "استعارة" النياندرتال أدواتهم من البشر كما ذكرنا، لكن ليس الكل مجمعاً على هذا الرأي..
منهم واحد من الباحثين الذين أنتجت أبحاثهم النظرة الحالية بوجود بقايا نياندرتال عائدةً إلى 28 ألف سنة في جنوب أيبريا (عكس ما توصل إليه البحث الذي ناقشناه والذي يقول أن النياندرتال انقرضوا قبل ذلك)، وهو يعلل ذلك بأنّ الكولاجين الذي يحوي الكربون والموجود في العظام، والذي نحدد عن طريقه عمر العينة، لن يكون محفوظاً جيداً في المناطق الحارةٍ كجنوب أيبريا مقارنة بالمناطق الأبرد، وبالتالي فالقياسات عليه غير دقيقة.
وعلى الطرف المقابل فإنّ العلماء القائمين على هذا البحث يأملون أن يساعدنا هذا الاكتشاف في حل بعض الألغاز حول النياندرتال، كيف ماتوا وكيف كان حال تواصلهم مع البشر؟ فعلى سبيل المثال يشير الـحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين DNA (الموجود في أنوية الخلايا) في غرب آسيا وأوربا أنه قد حدث هناك تزاوجٌ بين البشر والنياندرتال منذ أكثر من 50 ألف سنة، وهو ما يعود غالباً إلى زمن خروج السلف المشترك للأوربيين والآسيويين من أفريقيا. ولكن لاتزال الأدلة مفقودة على حدوث مثل هذا التزاوج في أوروبا، لكنه محتملٌ كون البشر والنياندرتال قد تواجدا في مناطق مشتركةً لآلاف السنين.
لقد أسهم هذا الاكتشاف فعلاً بوضع المزيد من قطع أحجية العلاقة بين البشر والنياندرتال في مكانها، وقربنا خطوةً نحو الأمام في فهم حياتهم.. من وجهة نظري..
الحاشية:
*النياندرتال: الإنسان البدائي وهو ليس سلف الإنسان الحالي بل بينهما سلف مشترك
**تقنية قياس العمر بالاعتماد على الكربون المشع 14:
"تتألف المادة من ذرات والتي بدورها تحوي نواةً تملك بروتونات ونترونات والرقم 14 يمثل عدد البروتونات والنترونات".
عندما تسقط الأشعة الكونية على طبقات الغلاف الجوي الحاوي على النتروجين تقوم بتحويل بعض أنوية النتروجين إلى الكربون المشع 14 والذي يتحد بدوره مع الأوكسجين ليعطي غاز ثنائي أوكسيد الكربون الذي تأخذه النباتات بعملية التركيب الضوئي وينتقل هذا الكربون إلى أجسام الانسان والحيوانات عند تغذيهم على هذه النباتات (لكنه بكميةٍ قليلةٍ جداً)، علماً أن الجسم الحي يحوي كربوناً غير مشع، وتكون النسبة بين الكربون المشع واللامشع ثابتةً في أي فترةٍ من عمر الكائن الحي. وفي حين تتحول المواد المشعة باستمرارٍ إلى أخرى غير مشعة، يتم تعويض هذا النقص باستمرار (عن طريق التغذي على النباتات كما ذكرنا). والآن، عندما يموت الكائن الحي يتوقف عن التغذي وبالتالي يتوقف عن تعويض النقص في الكربون المشع وبالتالي تختلف نسبة الكربون المشع إلى غير المشع في الجسم العادي عنها في الميت، وبما أننا نعرف النسبة التي يتحول فيها المشع إلى غير المشع خلال الزمن وهي نسبةٌ ثابتةٌ، نستطيع مقارنة النسبة بين المشع وغير المشع في الميت مع الحي، فنعرف الفترة التي تعود إليها هذه العينة (عظم الكائن الحي أو الأدوات المصنوعة من مادة حية مثل الخشب).
المصادر: