البيولوجيا والتطوّر > التطور
التزاوج الانتحاري و الانتخاب الجنسي عند الثدييات
سمعنا بأنّ بعض إناث العنكبوت تقوم بالتهام الذكر بعد الانتهاء من التزاوج وبأنّ ذكور السلمون قد تبذل حياتها في سبيل الوصول إلى الإناث، لكن هل يمكن أن يكون التزاوج محفوفاً بهكذا مخاطر عند الثدييات؟!
قد تُناور ذكور الثدييات وتتقافز وتتعارك وتتخذ وضعيات "مثيرة" لجذب الإناث بل يمكن حتى أن يكون التكاثر عملية مؤلمة بالنسبة لبعضها لكنه عادةً ليس مميتاً. إذ تتزاوج الذكور مع الإناث وتعيش لتتزاوج بعدها مرّاتٍ ومرّات، غير أن هذه القاعدة لا تنطبق على الجميع؛ فبعض المجموعات التابعة لأنواع من الجرابيات اللاحمة مثل (dasyurids و didelphids) المتواجدة في أستراليا وجنوب أمريكا تمارس سلوكاً جنسياً متطرفاً فهي تتزاوج مع عدة شركاء و يدوم "حفل" التزاوج هذا ساعات طويلة ثم تموت الذكور كلها! ما هو السبب وراء ذلك؟
تقول إحدى النظريات بأنّ موت الذكور بعد التزاوج ما هو إلّا نوعٌ من الإيثار إذ تفضّل الانتحار من أجل توفير الغذاء للنسل الجديد وعدم التنافس معه على طعامه، فهل هذا هو السبب فعلاً ؟
لمعرفة السبب الحقيقي قام العلماء بدراسة أكثر من 50 حيواناً من هذه الأنواع التي تختلف في معدلات نجاة ذكورها من الموت بعد التكاثر، وسجلّوا بيانات تتضمن: نسبة الذكور الذين ماتوا بعد التزواج وحجم الصفن وطول موسم التزاوج. ولنفي النظرية السابقة قاموا أيضاً بتسجيل مدى وفرة المفصليات (الغذاء الرئيسي للأنواع المدروسة) خلال موسم التزاوج.
وهنا كانت المفاجئة! حيث وجدوا أن الإناث تتعمّد جعل فترة التكاثر قصيرةً قدر الإمكان كي لا تفوتها فترة ذروة توافر الطرائد و هي بهذا تضمن وفرة الغذاء عندما تفطم أطفالها. وتبيّن أنّ هذا السلوك من قبل الذكور ليس إيثاراً بل هو أشبه بانتحار جماعي يحصل نتيجةً للتنافس الشديد بين الذكور حيث تستنفذ الذكور كل طاقتها في التكاثر مما يودي بها إلى الهلاك بعد التزاوج بشكل متزامن.
نأتي الآن إلى تفاصيل القصة ، إذن فترة التكاثر قصيرة جداً (هكذا تريد الإناث) والذكر لا يملك إلا هذه الفرصة لينجب نسلاً .. لذا سيدخل في تنافس مميت مع الذكور الأخرى، ولكن ما طبيعة هذا التنافس؟
بما أن الذكر و الأنثى كلاهما متعددا شركاء التزاوج أي أن الذكر لن يستطيع منع الأنثى من مجامعة ذكور آخرين، تَحتّم عليه التنافس معهم على مستوى آخر؛ النطاف. فها هو يعمل جاهداً لإعطاء أكثر ما يمكنه من نطاف و بنوعية متفوقة ويسخّر كل طاقته وأنسجته في سبيل نجاح خطته فتكبر خصيتاه ويستمر في عملية التزاوج لعشر ساعات متواصلة ما يحد من احتمال مجامعة الأنثى لذكور آخرين. بعد انتهاء فترة التكاثر يحدث خلل مناعي عند الذكور نتيجة العبء الزائد الذي تحملته وفي النهاية تموت الذكور جميعاً.
لم تعمَد الإناث إلى جعل فترة التكاثر قصيرة فقط من أجل ضمان الغذاء وإنّما كان هدفها حثّ الذكور على المنافسة وهذا ما يعرف بالانتخاب الجنسي (sexual selection) فالذكور الضعيفة ستموت دون أن تخلف ذريّة أما الذكور القوية فعلى الرغم من موتها ستترك ذريّة قوية بسبب تفوق نطافها بالنوعية والكمية.
من الرائع أن نلاحظ في هذا القصة كيف تؤدي حركية جماعات الطرائد Population Dynamics (فترات توافرها و كمياتها و تحركاتها ... الخ) إلى الانتخاب الجنسي عند مفترسيها! حيث تقود التغيرات الموسمية للمفصليات إلى التكاثر الانتحاري لذكور الثدييات المدروسة هنا.
هكذا تعرّفنا على التكاثر الانتحاري و العوامل المؤدية له وإنّها لقصة مثيرة تحمل في طيّاتها مزيجاً من علوم البيئة و السلوك و التطور والبيولوجيا.
المصادر: