الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
تحليل أسطورة التنين البابلي
هذا المقال تحليل لنص الأسطورة الذي ورد في المقال هنا
بعد قراءتنا لأساطير التنين البابلية نجد أن الإنسان البدئي لم يكن فيلسوفاً إلا أنه أشغل نفسه بمحاولة معرفة أمور هي الفلسفة بعينها وكثيراً ما ساءل نفسه أيهما كان أولاً الموت أم الحياة؟ العدم أم الوجود؟ الضار أم النافع؟ وهو بذلك إنما بلغ مرحلة متقدمة نسبياً أدت به إلى تقسيم قوى الطبيعة إلى قوتين تعملان في اتجاهين متعاكسين، هما قوة إيجابية فيها النفع والوجود ممثلة بعطاء الطبيعة وخصب الأرض وكان هذا هو الخير بالنسبة له، والقوة الأخرى قوة سلبية فيها الضرر والموت والعدم.
وقد كان الصراع مع القوى البدائية أحد السمات التي تميز ديانات العالم القديم والتي نشاهدها في فنهم وأساطيرهم. في حين أن الصراع مع التنين كان أحد العقائد المهمة التي نقرأ عنها في أساطيرهم، فشعور الإنسان بالعبء إزاء عجزه في عالم يعاديه وخوفه هو الذي دفعه إلى تجسيم الوحوش الأسطورية التي ظهرت في جميع الفترات العظيمة في بلاد الرافدين. لذا كان التنين هو الصورة النموذجية للعقل البابلي الذي كان مستعدا لتقبل الأفكار البعيدة جداً عن الواقع.
ولعل صراع مردوك وتيامات كان أكبر مثال على صراع الخالق مع بعض الكائنات الغريبة، كالتنين، التي لها علاقة في أغلب الأحيان بالمياه الأزلية والتي تمثل قوى الفوضى الهيولية حيث كان الشكل السائد لتلك الكائنات هو شكل التنين الذي كان دائما ما يُنتصر عليه من قبل الإله.
وقد مثل الصراع بين مردوك وتيامات صراع القوى الطبيعية، ففي كل عام جديد عندما تهدد الفيضانات باسترجاع فوضى مياه الزمن الأول، وكان من المحتم على الآلهة أن يحاربوا من جديد حيث أن الصراع ضد المياه كما ذكرنا في أساطير التكوين كان لها أثرها في الميثولوجيا.
ونجد أن صراع مردوك وتيامات لم يتوقف على هذا بل جسد الصراع الاجتماعي بين مبدأين هما المذكر والمؤنث. فكما أوردنا سابقاً إن الخليقة البابلية جُعلت من مذكر ومؤنث معاً، ثم جعلوا المؤنث يمثل الشر وهذا يعود كما أوردنا في مقال سابق إلى قدوم الجزريين، حيث كانت أقدم صور الأُسر لديهم هي الأسر المكونة من أفراد ينتسبون إلى الأب فقط لذلك أوجدوا القوى الثنائية مذكر ومؤنث لتمثل الخلق ثم موت العنصر الأنثوي، التنين، والذي يمثل عنصر الشر لتسود القوى الأبوية بانتصار مرودك.
وقد كانت الوسيلة الاعتيادية التي حقق بها مردوك النصر، هي استخدامه للسحر وقوى الريح في الوقت الذي كانت فيه تيامات تستخدم قوى السحر أيضاً. إذا كلاهما يلجآن لوسائل غير بشرية، إلا أن الفرق يعود في موقف كل منهما إن كان خيراً أو شريراً. ولا ننسى أن مردوك الإله الذكر تميز في صراعه بأنه استخدمه وسيلة أكثر خطورة وهي قوة الخلق والإبادة بالكلمة التي كانت تعطى للإله الذكر. حيث نجد أنه بعد انتصاره على التنين أصبح هو الأب الأوحد للجميع، لا أحد يدنيه في إطلاق نفوذه. ويبدو أنه بداية ظهور الأب الأرضي المتفوق التي أفرزت رباً متفوقاً على بقية الأرباب كخطوة تطورية في السماء أفرزها جدل المجتمع على الأرض، فلم يقبل الإله الأب المنتصر قبول رفيقة أو أي منافس له.
أما فيما يخص التنين البابلي الأخر "اللابو"، فهنا نقف أمام نموذج جديد من الصراع الذي اشتركت فيه الآلهة ولكن الصراع هنا تم مع وحش بحري خلقه البحر كما تقول الأسطورة حيث نعود هنا لنجد الصراع مع المياه يعود مجدداً فكلما حاول النظام الجديد تركيز دعائمه تعود المياه الأولى بصور شتى لتواجهه وتمنعه.
والجدير بالذكر هنا بأن دم اللابو بعد مقتله من قبل إله غير معروف بسبب التلف الحاصل في النص الأصلي، يفيض لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر ويوم واحد وليلة. وهذا يشابه ما ورد في أسطورة نينورتا السومري وصراعه مع أساج حيث أن المياه فاضت من العالم السفلي لنفس الفترة. وهنا نجد بأن هذه المحاكاة تجعل الإله ننيورتا الأقرب في الاحتمالات لأن يكون هو من قتل اللابو البابلي.
وهكذا نجد أن التوظيف الحيواني لم يكن سوى إشارة إلى الفرد والمجتمع وتعيين لحالات الخلل الاجتماعي والسياسي التي كانت تسود عصوراً مختلفة من حضارة بلاد الرافدين. ففي الواقع إن فكرة التنين بحد ذاتها تكشف عن صيغة الصراع الفكري بين القديم والجديد والموت والحياة والشر والخير والفوضى والنظام.
المصادر:
- الأسطورة والتراث، السيد القمني.
- دراسة في الأساطير، الآلهة في رؤية الإنسان العراقي القديم، د أسامة عدنان يحيى.
- أساطير العالم القديم، د. كارم محمود عبد العزيز.
مصدر الصورة: هنا