الموسيقا > موسيقيون وفنانون سوريون وعرب
لينا شماميان ... رسم تفاصيل الروح بالغناء
بصوتٍ شبيهٍ بهدهدة الأمهات، نوستالجيٌّ كما لو أنه قادمٌ من أزمنةٍ لم ترتقِ له الذاكرة.. وأصيلٌ كالبلاد التي جاءت منها..
هكذا بدت لي في المرّة الأولى التي أشرقت فيها على صباحاتنا.
يقولون اسمُها لـيـنـا.. ليّنة رقيقة كنسمةِ صيفية، وصلبة بهيّة كعودِ قصب كلّ ما عِتقْ.. بِيحنّ!
بدل الشامة، زيّنت جسدَ الأغنية العربية بـ "شامات"، كاسرةً نمط الغناء العربي الموسومِ بالإسفاف والرداءة، والمرسومِ زوراً وبهتاناً بأصواتٍ ناشزة و أنماطٍ مبتذلة. وجعلت جيلاً شاباً بأكمله يتآلف مع موروثِه التراثي الشعبي المنسيّ بعد أنّ بثّت روحاً غير مألوفةٍ فيها بخامةِ صوتِها النقية.
يتساءل الرفاق عن لينـا.. من تكون!
إنّها خريجة "كلّية الإقتصاد / إدارة أعمال" من جامعة دمشق. والبداية كانت باكراً حين ارتقت المسرح المدرسي بعمر الخامسة.
تعلّمت الصولفيج في سن باكرة، وأكملت دراستها الموسيقية الأكاديمية بدخولها إلى المعهد العالي للموسيقى عام 2002 لتتخرّج منه كـ مغنّية كلاسيكية عام 2007.
بين دفّتي عام 2002 و 2007 كانت إنجازت لينا شماميان مبهرة! حيث نالت عام 2006 مع زميلها في المعهد، الموسيقي وعازف الساكسفون والترومبيت باسل رجّوب، على جائزة الموسيقى الأولى للشرق الأوسط المقدمة من راديو مونتي كارلو الدولية، عن باكورة أعمالها "هالأسمر اللون" الذي ساهم بإنتاجه فوزه بمنحة مؤسسة المورد الثقافي من مصر.
"هالأسمر اللون" أبهر الجميع بتقديمه وللمرة الأولى أغاني الفولكلور الشعبي لبلاد الشام بقالبٍ جديدٍ حافظ على أصالة القديم، بعد أن طعّمه بارتجالاتٍ متوافقة مع اللحن الأصلي، و بأسلوبٍ جازي كلاسيكي لاتيني عصري، فقدّم أغاني مثل "على موج البحر" وموشحاتٍ أندلسية مثل "لما بدا يتثنّى"..
كانت الدراسة الأكاديمية جنباً إلى جنب مع عملٍ دؤوبٍ أثمر عن ورشات عمل في الموسيقى الكلاسيكية والجاز، شاركت فيها لينا شاماميان مع العديد من الموسيقيين والمغنيين من جنسياتٍ مختلفة مثل الإيطاليتين غلوريا سكالكي وكارمن فيللاتا، والهولندية ميا بيتس، وعازف الأكورديون الألماني مانفرد لويشتر.
"شامات" جاء ليعلن أن نجاح تلك الشابة الجميلة ليس ظاهرةً عابرة أو ضربة حظٍّ موفقة، بل مشروعاً موسيقيّاً واضحَ المعالمِ و مدروسَ الخُطى، فكان ألبومها الثاني بأغنياته الثمانية بالإضافة لمقطوعة موسيقية مُتّسماً بحرَفيةٍ عالية، مُدخلاً آلاتٍ جديدة أضفت على الأغاني جوّاً جديداً غير مسبوقٍ في ألبومها الأول.
تنوعت الأنماطُ في هذا الألبوم في مقطوعة "سحر"، رافقت لينا الآلاتِ بصوتها من خلال دندناتٍ سريعة "تيرا رارا تيرارا"، تختمها بـِ "يا ليل وآمان" عذبة ثاقبة في الطبقات العليا، و هادئة في النوتات المنخفضة. كما قدّمت إضافة مميزة بـأغنية أرمنية رتلتها بصوتٍ صافٍ دون مرافقة موسيقية. إلى جانب أغانٍ أخرى مثل "يما لالا" بصوتٍ رخيم هادئ مرافقٍ لآلة البيانو، يرتقي صعوداً في الطبقات العليا ليصدح قوياً ثابتاً: "يمّـــا خلي الحلوة لأهلا.. تمشي وتسرح ع مهلا.. يمّــا.. ما شفنا منها أحلى.. هالحلوة زادت دلالا".
في ترنيمة "دعوني أجود" ينطلق صوتها حزيناً متأوّهاً مسترسلاً في حزن الكلمات: "وحيدي قضى، وحيدي الحبيب.. فتفطّري يا كبدي".. لتأتي الجملة مع حضور الكلارينت والتشيلو والبيانو بوقع قوي ومؤثّر.
سجّل ألبوم شامات محاولة لينـا الأولى في الكتابة، والتي ستتبلور لاحقاً بوضوح في ألبومها الأخير "غزل البنات"، كانت تلك المحاولة في أغنيةٍ بعنوان "شآم"، جاءت كلماتها كنجوى عاشقة أطلقتها لينـا في حبّ مسقط الروح والرأس "دمشق".
شآم أنتِ فتاتي وأمّي.. حضنتِ صباي فهل فيكِ أكبر..
فيا ليت قبري وفستان عرسي بفلّك يعمر.. شـــآم..
"غزل البنات"، ألبوم لينـا شاماميان الثالث، جاء بعيداً عن أرضِ الوطن، فجاء كبوحٍ رقيقٍ حمّلته لينـا أشواقَها.
تقول في لقاء صحفيٍّ* لها واصفةً أغاني ألبوم غزل البنات: "لكلّ أغنيةٍ قصتها التي أفردتُ لها مساحة خاصة على غلاف الألبوم، يجمعها كلها همّ الإنسان والوطن، وكلّ قصّةٍ تحكي عن لحظة عشتها منذ٢٠١١، كلّها تتمحور حول سوريا، بما فيها أغنية الحبّ الوحيدة «غير شي»، حيث أنّ تأليفَها ساعدني على استيعاب الفقدان الذي مررت به منذ رحيلي عن سوريا في هذه المرحلة".
في هذا الألبوم المسجّل بين اسطنبول وباريس، والمُنتَج بشكلٍ مستقل من قِبل لينـا، تقدّم لينـا المغنّية نفسها للمرة الأولى كمؤلّفة وموزّعة وكاتبة، حيث كتبت ثلاث أغنياتٍ من أصلِ اثنتيْ عشرة أغنيةَ، وقامت بتلحين وتوزيع معظمها.
لم يقتصر جديد الألبوم على تنوع مواضيع الأغاني فحسب، بل جاءت الأغنيات أيضاً بنمط موسيقي مختلف عمّا سبقه من ألبومات. تقول لينا في هذا الخصوص في نفس اللقاء الصحفي الذي أشرنا إليه: "غزل البنات لا يندرج تحت مسمّى واحد. صحيحٌ أنّ النمط مختلف هذه المرة لأنّ الألبوم ليس إعادة توزيع لموسيقى تقليدية كما حدث في سابقَيْه، إلّا أنّ الموسيقى الشرقية هي الأساس، وهنالك لونٌ غربيٌّ في التوزيع والآلات المستخدمة، وتبدو الروح التقليدية حاضرة دوماً في الإيقاعات". وتضيف: "الجديد هو المساحة المُعطاة للصوت البشري لكوني المؤلفة، وعلى دراية بمساحة صوتي. هناك تحدٍّ جميل استمتعت به وهو تحويل الموسيقى (الآلية) إلى موسيقى غنائية ".
بخطواتٍ صغيرة ثابتة تمشي لينا على طريقٍ شقّته بنفسها.. ابتدأ بحلمِ طفلةٍ صغيرةٍ اعتادت أن تملأ فضاء منزلها فرحاً وبهجةً بصوتها العذب.. اليوم باتت لـينـا رائدةَ مشروعٍ موسيقي واضح المعالم، يرتقي بالموسيقى العربية في زمن "الإنحطاط"، مثبتةً أن المستمع قادرٌ على التمييز بين الغثّ والسمين، ذواقٌ بالفطرة لكلّ ما هو جميل حين يُوجد ويُقدّم..
ألبوماتٌ ثلاثة، والدّرب طويلٌ لم ينتهِ.. إنّها البداية فقطْ لتلكَ المتّقدةِ صَوْتاً و رُوحاً..
تحيّة إلى الفنّانة الرائعة.. لـينـا شماميان.
المصادر :