الموسيقا > موسيقيون وفنانون سوريون وعرب
زكي ناصيف، أهزوجة الشرق الخالدة
عذوبةُ الصَّوت وسِحرُهُ، اللحنُ المريحُ البسيط والعميقُ، روحُ الفُلكلور وحكاياتُ الوطن، مراحل العمر من الطّفولة إلى الكُهولة مروراً بنشاط الشباب، قِيمُ الحياة بما فيها الحبُّ والجَمال والإنسانيَّة، القوة والتَّحدي، كل ذلك يتجسَّد في فنِّ وموسيقى وكلمات الرَّائع زكي ناصيف.
ولعلّ هذه السطور القليلة التي سترد لاحقاً قد تفيه ولو جزءاً بسيطاً من حبنا وتقديرنا لأعماله وعطائه الذي أغنى فيه حياتنا بجمال صافِ عذب.
ولِدَ زكي ناصيف في 4 تموز عام 1918 في مشغرة _لبنان (البقاع الغربي) وكان الأصغر من بين ستة أخوة (4 صبية وابنتين).
أبوه شاكر ناصيف كان تاجراً وأمه رشيدة ابراهيم الحساسة جدّاً ، ساعدت في بداية حياة زكي بتنمية حِسِّه الموسيقيّ من خلال غنائها في المنزل، كان صوتها جميلاً جداً ولكنها كانت تغني أغانِ حزينة وتبكي فيبكي زكي معها.
أُغْرِمَ منذُ صغره بالموسيقى والشِّعر الشَّعبي ( العتابا، الزجل، الميجانا، أبو الزلف...) والدّبكة اللبنانية التي أثّرت به كثيراً ممّا طوَّر قناعته بإمكانية التعبير الحقيقي عن الاحتفالات الجماعية والتضامن من خلال هذه الرقصات الشَّعبية اللبنانية.
كما كان لأسطوانات الموسيقا التي كان يحضرها والدُهُ دوراً كبيراً في تنمية حس زكي الموسيقي،ومن خلال الفونوغراف كان يستمع لروّاد الغناء العربي في تلك الفترة ويحفظ موسيقاهم وأغانيهم مثل سلامة حجازي، سيد درويش، يوسف المنلاوي، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب وغيرهم،ولكن الدور الأكبر في تنمية موهبته الموسيقية فهو عائدٌ للتراتيل الدينية السريانية والبيزنطية التي غرف منها لاحقاً في التأليف.
عام 1933 تعرض لإصابة خطيرة في قدمه ولازمته كل حياته مما أجبره على ترك الثانوية.
وبدأ بدراسة الموسيقى عام 1936 بتشجيع من شقيقه الأكبر في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان معظم أساتذته من المهاجرين الروس الذين قدموا إلى لبنان بعد الثورة البلشفية، وأغلبهم من عائلة كوجويل:
درّسهُ أركادي وزوجته العزفَ على البيانو و"الصولفيج"، ورودولف أخو أركادي درّسه التشيللو .
كان الملحن توفيق الباشا ( 1924-2005 ) صديقاً مقرباً وزميلاً لهُ في الجامعة الأمريكية.
بقي زكي في هذه الجامعة حتى عام 1941،بعد ذلك واصلَ دراسته للموسيقى الكلاسيكية مع "برتراند روبيلارد".
عمل زكي بين عامي 1941 و1943 في التجارة (بيع الجلود وبذور الزرع) وظل متأرجحاً بين التجارة مع إخوته والموسيقى حتى عام 1953 حين قرَّرَ التَّفرُّغَ للموسيقى.
وقد أكّدَ زكي ناصيف على مساهمته الكبيرة بما أصبح يعرف باسم "النهضة اللبنانية" والتي كانت بداية العصر الذهبي للموسيقى والدبكة اللبنانيتين.
ومن الموسيقيين الأساسيين في ذلك العصر: زكي ناصيف، توفيق الباشا، فيلمون وهبي والأخوين الرحباني .
وهؤلاء نفسهم باستثناء وهبي ومع عبد الغني شعبان شكلوا "عصبة الخمسة" ،وكانت على غرار دائرة الموسيقيين الروس "The Five" (1856_1870) التي كان هدفها تعزيز الموسيقى الحديثة مع المحافظة على هويّة الموسيقى المحلية.
كانت نقاط الاتصال الخاصة بـ"عصبة الخمسة" هي إذاعة الشرق الأدنى (1953_1956) وإذاعة لبنان في بيروت ومن ثم مهرجان بعلبك عامي 1957 و1959، حيث في عام 1957 قامت هذه العصبة بتدشين انطلاق الليالي اللبنانية الأولى بعمل فلكلوري عنوانه "عرس في الضيعة" وفي تلك الليالي البعلبكية الأولى انطلقت الأغنية التي لحّنها زكي وغناها الكورس (طلوا حبابنا طلوا) وكذلك أغنية (يا لالا عيني يا لالا) اللتان غناهما لاحقاً الراحل القدير وديع الصافي.
عام 1960 انضمَّ زكي ناصيف إلى فرقة الأنوار التي أطلقها سعيد فريحة ولحّن لها أجمل أغاني وموسيقى ورقص الدبكة اللبنانية مثل(ليلتنا من ليالي العمر) وغيرها .
درَّسَ في المعهد الموسيقيّ الوطني كما درَّس في المدرسة الموسيقيَّة التابعة لمعهد الرُّسُل (جونية)، وشارك في لجنة تحكيم برنامج استوديو الفن لعدة سنوات 1974، 1980 ،1988، 1992.
بدأ العملَ بشكلٍ منفردٍ منذ عام 1965 وسجّل حضوره بقوّة وبثبات في اثنين من مهرجانات بعلبك عامي 1970 و1974.
وقام بإدخال نوع جديد من الغناء للإذاعات وهو غناء الكَوْرَس بعدما كان الغناء مقتصراً على الأداء الفردي حيث لم يجازف أحد من قبل في تأليف أغنيات للكورَس .
ألَّف الكثير من الأغاني للكْورَس وللكثير من المطربين مثل صباح (أهلا بهالطلة أهلا، ع لبنان لاقونا، تسلم يا عسكر لبنان) ، وديع الصافي (رمشة عينك وطلوا حبابنا) ، نصري شمس الدين ، نجاح سلام، سميرة توفيق، جوزيف عازار.
وتعاوَنَ مع فيروز حيث غنَّى معها من ألحانه (هو وهي) للشاعرة فدوى طوقان، ومن ثم أغنية (يا بني أمي) لجبران خليل جبران.
عمل أيضاً مع جيل جديد من المطربين مثل ماجدة الرومي، غسان صليبا، علي حليحل وغيرهم.
لحَّن أغاني لعدد من المسلسلات التلفزيونية أشهرها (بربر آغا).
كانت أكثر أغانيه تأثيراً تلك التي ألّفها عام 1980 والتي أصبحت تنافس النشيد الوطني اللبناني وهي (راجع يتعمر لبنان).
ومن روائعه أيضاً (مهما يتجرح بلدنا) التي تعبر عن العاطفة وصدق الحب الوطني ، كتبها بعد مجزرة قانا عام 1996.
يعتبر زكي ناصيف المؤسس للمدرسة اللبنانية-العربية الجديدة للتأليف الموسيقي الفريدة من نوعها في كلماتِها المعبِّرة، موسيقاها ،والمتميّزة برقصاتها المنسجمة مع أنغامها من جهة ووثيقة الاتصال بالفلكلور من جهة أخرى، حيث ألَّف ناصيف ما يقارب 1100 مقطوعة موسيقية وأغنية تندرج تحت العديد من الأنماط والأنواع الموسيقية.
لا ينتمي زكي ناصيف إلى مدرسة الرحابنة الموسيقية التي زاوجت الموسيقى الغربية الكلاسيكية والشعبية مع الموسيقى اللبنانية التقليدية وإنما نمطُه كان مرتبطاً بالمادة القديمة وإضافة روح الرّيف اللبناني لها.
نجد في أغانيه كلمات عادة من النوع الوطني( بلدي حبيبي، يا ضيعتي ، ...)، وكانت مشاهد من لبنان دائماً ما تترافق مع أغانيه حين تُعرَضُ على المحطات التلفزيونية اللبنانية.
عُرِفَ من خلال ثقافته الموسيقيَّة الشَّرقيَّة والغربيَّة في آن، وكيف استطاع أن ينشئ تآلفاً وانسجاماً بين آلتي المجوز والبيانو دون المساس بروح اللحن وجوهره، ومثال على ذلك ( ميجانا يا ميجانا)، حيث تعتبر مثالاُ من اللحن التراثي الموزَّع المحدَّث والذي استخدمت فيه آلة البيانو الغربية بالاشتراك مع الناي.
هَدَف ناصيف من خلقِ هذا التآلف إلى المقاربة بين الشرق والغرب من الناحية الموسيقية والاستفادة من خبرات الغرب.
وكان يعتمد على الإيقاع البسيط والمركَّب حيث يدخل البهجة إلى نفوس المستمعين عبر تركيزه على الإيقاع لا على الدراما.
تميّزت جملته الموسيقية بالثقة والإتقان فكانت ممسوكة بإيقاع مغناج وحركة نابضة إضافة إلى الكفاءة العالية في توزيع الكلمات بين صوته والكّوْرَس الذي لم يستخدمه كعامل يساعد المغني ويحمل عنه ، بل كعنصرٍ فنيٍّ ضروريّ في بنية الأغنية الحديثة والمعاصرة.
عام 1995 وبمفاجأة كانت للكثيرين الذين اعتقدوا أن زكي ناصيف لا يمكنه إنتاج مادّة موسيقية جديدة، ألَّف زكي ألبوماً كاملاً لفيروز (فيروز تغني زكي ناصيف).
بالرغم من شعبيته، بقي زكي ناصيف من أصحاب الدَّخل المحدود حيث أنّ تلكَ السنواتُ السّتّون من العمل في صناعة الموسيقى لم تجعله رجلاً غنيّاً، وهذا هو الحال مع العديد من الموسيقيين اللبنانيين.
نذكر آراء بعض الفنانين في موسيقى زكي ناصيف:
أميمة الخليل وصفت خصوصية زكي ناصيف : "بساطة جملته الموسيقية وقربها من الناس، يمكنك حفظها فوراً من دون جهد، كما أنّ شخصيَّته الموسيقية مُحبَّبة. إنَّه يتمتَّع بنوعٍ خاصّ من السِّحر الذي لا يسعُكَ مقاومته. ما يميّزه عن البقية هو إخلاصُه للجملة البسيطة وبعده عن التكلّف".
ريما خشيش قالت : "يتمتّع زكي ناصيف بلون خاص به. قد لا يكون ما أقوله ذا معنى موسيقي، لكن ألحانه محمّلة بالطُّفولة والبراءة بالنسبة إليّ، أشعر بهذا الشيء عندما أسمع أغنياته، هناك طفولة في أدائه وينبعث سحر خاص من مؤلّفاته".
وشربل روحانا صرّح: " أولاً، تتجلّى أهمية عمل زكي ناصيف في أنه ينتمي إلى السَّهل الممتنع.
ثانياً، تجد موسيقاه جذورها في الفُلكلور والموسيقى الشعبية والدينية. ثالثاً، تتمتع موسيقاه بألحان جميلة، كما أنها غنيّة جداً، ويشعر المرء بالمتعة عند إصغائه إليها".
توفي زكي ناصيف في 11 آذار من عام 2004 بعد أن أغنى رصيد الموسيقى الشرقية عامّةً والعربية خاصّة بالكثير من المؤلّفات،ورافقت موسيقاه وأغانيه الكثير من الأحداث التاريخية والوطنية،القصص اليومية والروايات الشخصية فكانت جزءاً لا يتجزّأ من الذاكرة العربية الموسيقية.
وبعد رحيله بثماني سنوات أُصدِرَ قرارٌ بتحويل منزله الواقع في مشغرة إلى متحف يحتوي على أرشيف الفنان من مخطوطات موسيقية وألحان لم تبصر النورَ بعد، إضافة إلى أغراضه الخاصّة التي رافقته طيلة مشوارِه الفني من بيانو ونظَّارات،قلمه الخاص وأوراقه،الكرسي الخشبي الذي كان يهوى الجلوس عليه عند المساء ليتأمل قمر مشغرة الذي لشدّة جماله من هذه المنطقة ، غنّت له فيروز أغنيتها الرائعة "يا قمر مشغرة".
نترككم مع بعض أعمال الفنان زكي ناصيف:
يا عاشقة الورد
راجع يتعمر لبنان
نقيلك أحلى زهرة
حلوة ويا نيّالها
مهما يتجرّح بلدنا
المصادر: