الموسيقا > الموسيقا والطب
الموسيقى تؤثر على طريقة تفكيرك
في البداية دندن عزيزي القارئ أول علامتين موسيقيتين من اللحن الرئيسي لمسلسل The Simpsons. إن هذا البعد الموسيقيّ الذي تسمعة يُعرَف باسم "Tritone" والذي يتم تعريفه في الموسيقى النظرية بأنّه أكثر الأبعاد نشازاً على الإطلاق، لدرجة أنَّ معظم الموسيقيين والملحنين وواضعي النظريات في القرن الثامن قالوا بأنه الشيطان في الموسيقى.
والآن عزيزي القارئ، قم بدندنة أول بضع علامات من أغنية "Twinkle twinkle little star" أو إذا كنت تفضل شيئاً معاصراً بإمكانك دندنة مقطع "I'm sorry" من أغنية "Ms. Jackson" ل "Outkast". هذا البعد يُسمّى "Perfect fifth" وهو أحد أكثر الأبعاد تناغماً، وقد استُخدِمَ في عدد لا يُحصى من المؤلّفات كأداة للثبات والانسجام.
والآن سؤالنا هو التالي: هل من الممكن أنّ يؤدي سماعك لعناصر موسيقية متباعدة إلى تغيير طريقة تفكيرك؟
تمَّ مؤخراً نشر مقالة جديدة بواسطة جوشيم هانسين وجوان ميلزنر في صحيفة "Experimental Social Psychology" تناقش هذا الموضوع بدقّة.
حيث قام الباحثون باستدعاء بعض المارّة في الشارع إلى المختبر وأسمعوهم قطعة موسيقيّة صغيرة تحتوي على سلسلة من الكوردات المتعاقبة. بعض الناس سمعوا كوردات متضمنة ال"Tritone" وآخرون سمعوا ال"Perfect fifth". في حالة ال"Tritone" تمّ عزف الكوردات ببطء (مرّة واحدة في كل مقياس رباعي)، بينما في حالة ال"Perfect fifth" تمّ تسريع الكوردات وسُمعت كلّ النغمات. لاحقاً أضافوا تأثير الصّدى وسُمعت كوردات ال"Tritone" كما لو أنّها تُعزَف في كهف غائر، وكوردات ال"Perfect fifth" كأنها عُزِفَت في خزانة مكسوة بالسجاد.
الشيء الذي اكتشفه العلماء أنه بهذا العمل البسيط والذي هو الاستماع إلى كل من هذين النوعين من الكوردات تتغيّر كيفية معالجة النّاس للمعلومات بشكل جذري. فعلى سبيل المثال، طلب الباحثون من الناس أن يقوموا بتنظيم قائمة من عناصر التسوّق إلى فئات متعددة. هل تعتقد أنّ مسحوق الغسيل والمحارم الورقية ينتميان إلى نفس الفئة أم إلى فئتين مختلفتين؟
لقد أظهرت النتائج أنّ الناس الذين استمعوا إلى ال "Tritone"قاموا بتنظيم فئات أقلّ من التي نظمها الناس الذين استمعوا إلى ال"perfect fifth" وهذا يشير إلى أنهم كانوا يفكرون بفئات أشمل وأوسع من نظرائهم.
وفي اختبار آخر، طلب العلماء من مجموعة من الناس أن يتخيلوا شراء قطعة خيالية أو قطعتين من الخبز المُحَمَّص، وهذه القطع تختلف من ناحية ما يُعرف بالمعلومات "الإجمالية" مقابل المعلومات "الفردية".
ولكن ما المقصود بكل من المعلومات الإجمالية والمعلومات الفردية؟
حسناً، كيف يمكنك أن تعرف متوسِّط مُعدَّل النجوم المعطاة لعنصر ما على موقع أمازون؟
إنّ هذا يسمى بالمعلومات الإجمالية، حيث يتم تجميع المعلومات من عدّة مصادر واسعة على خلاف المعلومات الفرديّة التي تعبّر عن رأي الزبون الذي يظهر في أسفل الصفحة.
ما الذي توليه اهتماماً أكبر عندما تحصل من خلال هذين النوعين من المعلومات على معلومات متضاربة؟
مثلاً عندما تكون المعلومات الإجماليّة سلبيّة بشكل كبير ولكن هناك رأي زبون واحد إيجابيّ؟
اتّضح أن الناس الذين عُرِّضوا للنماذج الموسيقية من نوع ال"Tritone" يميلون أكثر للمعلومات الإجماليّة، والّذين عُرِّضوا لل"perfect fifth" يميلون للمعلومات الفردية.
إنّ الكامن وراء هذه الأسئلة المتباينة على ما يبدو هو تقريباً نظريّة جديدة في علم النفس الاجتماعي الذي أثبت أنّه قادر على توضيح تصرفات الإنسان المختلفة.
تُعرَف هذه النظرية بأنها نظرية في طور التأسيس وفرضيتها الرئيسية هي أنه هناك رابط بين مدى بعد الأشياء عن الناس وكيف يقومون بتحليلها على نحو تجريديّ.
فمثلاً الشيء البعيد هو عطلة في هاواي السنة القادمة، تظهر لنا هذه الفكرة عامّة وغير واضحة وملامحها الرئيسية التي تتوارد إلى أذهاننا هي (الشاطئ والشمس)، وعندما يقترب وقت العطلة فإنّ العناصر التي لم نأخذها بعين الاعتبار من قبل مثل(حزم الحقائب وإمكانية هطول الأمطار) فجأة تخطر في بالنا.
بكلمات أخرى، الغابة مثلاً تتراءى لنا مجموعة أشجار فقط.
عموماً فإنّ النظريّة تساعد في توضيح ظواهر تبدو متباينة مثل:
لماذا نفشل في توقّع المدّة التي نستغرقها في إصلاح مغسلة المطبخ؟
لماذا يجعل الغياب القلب يهيم غراماً؟
ولماذا نادراً ما نقوم بتنفيذ قراراتنا التي اتخذناها في بداية السنة الجديدة؟
في كل هذه الحالات فإنّ ما بدا لنا جميلاً بطريقة ما من بعيد تحوّل عن قرب ليصبح وحشاً.
ولكن السؤال، كيف يرتبط كل ذلك بالأنماط الموسيقية؟
ما فعله الباحثون بذكاء هو أنهم أخذوا بعين الاعتبار قدرة الموسيقى على استحضار حالات دماغية محددة. حيث أنّ ملامح صغيرة جدّاً وغير قابلة للقياس تقريباً في قطعة موسيقية ما، لديها القدرة على انتزاع أنماط شخصية عميقة ومحددة من الأفكار والمشاعر لدى المستمعين لها.
(يحتاج أحدنا فقط للاستماع لأداء أسترود جيلبرتو الحائزة على جائز غرامي في أغنيتها "The Girl From Ipanema" لتعيد تقدير قدرة الموسيقى على التقاط الأمزجة الغريبة والغامضة).
فقد استغلّ هانسن وميلزنر هذه الحقيقة ليثيروا لدى المستمعين أنماط الأفكار المماثلة لتلك المحددة مسبقاً من قبل النظرية التي لا تزال في طور التأسيس. حيثُ أنّ النّغمات البطيئة، الرّنانة وغير المألوفة (تمثّل الغابة) تجعل الناس يفسرون الأشياء على نحو تجريدي. على النقيض فإنّ النغمات السّريعة، المتناغمة والمألوفة "perfect fifth" (تمثّل الأشجار) تبرز العقليات الواقعية.
مجموعات عناصر التسوق والآراء الخاصّة بالخبز المُحَمَّص تتوافق مع تدابير التجريد التي تم تطويرها في علم النفس التجريبي.
عندما تقوم بإنشاء مجموعة من عناصر التسوق مؤلفة من فئات قليلة، هذا يشير إلى أنّك تنظر إلى القائمة بشكل تجريديّ، حيث أنّك تقوم بتجميع العناصر وفقاً لجوهر مشترك. وعندما نهتم بالمعلومات الإجمالية وليس الفردية نفترض ضمنا أننا توصلنا إلى نفس النتيجة: إننا نرى الغابة عوضاً عن ميلنا لرؤية شجرة واحدة.
ليست مفاجأة أن الموسيقى يمكن أن تحرّكنا، فهذا هو المغزى من الفنون.
في هذه الأيام يستطيع الخبراء في غرفة الإنتاج أن يقوموا بإضعاف أغنية، يتلاعبوا بالإيقاع، بالنغمات، باللحن أو الصياغة بواسطة الضبط الرقمي. فالشعراء الغنائيين والمنتجين هم العباقرة الحقيقيون خلف نجاح الموسيقى المشهورة في وقتنا الحالي، ويبدو أنهم يملكون فهماً بديهياً للظواهر المتباينة الناتجة التي توصلت إليها هذه المقالة في علم النفس. فصوت نفس مضاعف من هنا، تسوية اهتزاز من هناك، هذه الإضافات تحسّن الأغاني التي نسمعها عبر الراديو. لذلك في المرة القادمة التي تستمع فيها إلى قطعة موسيقية من لائحة أفضل 40 أغنية، قد يكون من الممتع أن نتساءل كم عدد العناصر التي تمّ التلاعب بها، لكي نغير طريقة تفكيرنا.
The Simpsons theme song
Twinkle twinkle little star