الفنون البصرية > مواقع سورية على لائحة التراث العالمي
القرى المنسية في شمالِ سوريّا
تشكل القرى القديمة الواقعة في الشمال السوري معلَماً مهماً حول تاريخ سوريا وعمارتها وحياتها المعتقدية مع حلول القرون الميلادية الأولى،فطُرزها المعمارية المدهشة تبدو للمشاهد كمناظر عجيبة وفريدة من نوعها لا نجد لها مثيلاً في العالم، بُنيت وفق أسلوبٍ معماريٍّ واحد أطلق عليه فن العمارة السورية تمييزاً له عن الفنون الكلاسيكية (اليونانية والرومانية).
تقع هذه القرى على سلسلة جبال كلسية واسعة في شمال سوريا، بين الحدود التركية شمالاً ومدينة أفاميا الأثرية جنوباً بطول 100 كم وعرض20 كم،يسيطر على هذه المنطقة ثلاث كتلٍ جبلية هيكتلة جبل سمعان وجبل باريشا والأعلى والدولية والوسطاني وكتلة جبل الزاوية، يقدر عددها ب778 موقعاً منها ما هو مسكون حالياً ومنها ما هو غير مسكون، يقع معظمها في محافظتي إدلب وحلب،يعود بناء هذه القرى إلى العصرين الروماني والبيزنطي في الفترة ما بين القرنين الأول والسابع للميلاد.
توفرهذه القرى منظراً واسعاً منسجماً واستثنائياً لأنماط الحياة القروية التي كانت سائدة في العصور القديمة والفترة البيزنطية. هجرها سكانها بين القرنين الثامن والعاشر (لذا تسمى أيضاً القرى المنسية)، لكنها لاتزال تحتفظ بجزءٍ كبيرٍ من معالمِها وأبنيتها الأصلية في حالةٍ لافتة من الحفظ الأثري: كالمساكن والمعابد الوثنية والكنائس والمزارات المسيحية والصروح الجنائزية والحمامات والأبنية العامة والمباني ذات الأغراض الاقتصادية أو الحرفية،الخ.
إنها صورة استثنائية لتطور المسيحية في الشرق لدى المجتمعات القروية. يشكل المجموع المكوّن من ثمانية تجمعاتٍ أثرية سلسلةً من المناظر الطبيعية الثقافية الفريدة.
تحكي هذه المنطقة جزءاً مهماً من تاريخ أجدادنا وكيف أنهم حاولوا تخليد استقلاليتهم عن روما وعن بيزنطة، لاسيما بعد انتصار المسيحية النهائية في القرن الرابع الميلادي، ففي هذه المنطقة تطور بناء الكنائس من الكنيسة المضافة أو غرفة الاستقبال إلى الكنيسة الكاملة (البازيليك أو الكاتدرائية).وفيها نشأت الحياة الديرية (الجمع بين العمل والعبادة) التي انتقلت منها إلى أوروبا وحركة العموديين ومن أبرزهم القديس سمعان العمودي.
ويعترف المؤرخون بأن كنيسة القديس سمعان كانت لفترة طويلة من أعظم كنائس العالم المسيحي، وأن نماذج الكنائس التي بناها المعماري السوري العظيم، المدفون رفاته في كنيسة قصر البنات قيروص فيريانوس، هي الأساس في كثير من الكنائس الأوربية اللاحقة.
تتميز هذه القرى بأسلوب زخرفةٍ جميلٍ لا مثيل له في العالم من الداخل والخارج، وتعكس مرحلةً من مراحل تطور فن الفسيفساء من الأسلوب الكلاسيكي واعتماده الأساطيرَ الوثنية إلى الأسلوب الديني، ولاسيما المسيحي، ببساطته واهتمامه بالجمال الروحي واعتماده على الرموز الروحية والزخرفة النباتية والحيوانية، ما شكّل مرحلةً في الانتقال إلى فن الفسيفساء الإسلامي.
ومن أهم هذه المواقع نذكر: قلعة كلونة، كيمار، قلعة نجم، برج حيدر، النبي هوري، كفرقدو أو كفر قابو، براد و دير براد، خراب شمس، البارة، سيرجيلا،برايشا.ومن الكنائس: كنيسة القديس سمعان العمودي،كنيسة قلب اللوزة وكنيسة المشبك.
أُدرج الموقع على لائحة التراث العالمي لليونسكو عام 2011 وفق المعايير الثالث والرابع والخامس:
المعيار الثالث: تشهدُهذه القرى ومواقعها الطبيعية على أنماطِ الحياة والتقاليد الثقافية للحضارات الزراعية التي تطورت في الشرق الأوسط واندثرت، وسط مناخٍ متوسطيٍّ على جبالٍ كلسيةٍ متوسطةِ الارتفاع من القرن الأول وحتى القرن السابع.
المعيار الرابع: تقدّمُ هذه القرى ومواقعها الطبيعية شهادةً استثنائيةً على فن عمارة البيت الريفي والأبنية الدينية والمدنية في نهاية الحقبة الكلاسيكية وفي العصر البيزنطي. إن الترابطَ بين القرى وأماكنَ العبادة يشكّل مناظراً طبيعيةً مميزةً للتحوّل من العالم الوثني القديم إلى العصر البيزنطي المسيحي.
المعيار الخامس: تقدّمُ هذه القرى ومحيطها الطبيعي مثالاً بارزاً عن الاستيطان الريفي المستدام من القرن الأول وحتى القرن السابع، والمبني على أساس الاستخدام الواعي للتربة والماء والحجر الكلسي، والبراعة في إنتاج المحاصيل الزراعية القيمة. ويشهد على ذلك الإنتاج الاقتصادي للسكان والهندسة الهيدروليكية وجدران الحماية المنخفضة والمواقع الزراعية الرومانية المدرجة في المحيط الطبيعي.
التكامل المعماري:
تم التعبيرُ عن التكاملِ المعماريِّ بشكلٍمناسب، وتمتدُ المواقعُ على نحوٍ كافٍ، حيث تشملُ عدداً كبيراً من القرى، وأماكن العبادة والشواهد الأثرية والصرحية التي تظهر قيمة عالمية متميزة. إن عددَ ونوعيةَ هذه المواقع الطبيعية هي أيضاً مناسبة وأساسية للتعبير عن هذه القيمة. ورغم ذلك فإن الاتجاه الحالي نحو إعادة الاستيطان الزراعي لهذه الكتلة الكلسية يمكن أن يؤثر على التكامل المعماري لبعض القرى والمحيط الطبيعي المرتبط بها.
الأصالة:
كنتيجةٍ لغيابِ الاستيطان البشري منذ أكثر من ألف عام، وغياب أي إعادة استخدام للحجارة، وغياب حملات إعادة الإعمار والترميم في القرن العشرين، احتفظت القرى ومحيطها الطبيعي بدرجةٍ عاليةٍ من الأصالة. وفي كل الأحوال فإن إعادة التوطين الحالي يمكن أن تؤثر على حالة الأصالة، مع أن إعادة الاستثمار التي تراعي الموقع الزراعي القديممن المفترض أن تسهم في إحياء المحيط الطبيعي مجدداً دون إلحاق الأذى بأصالته.
الحماية ومتطلبات الإدارة:
تسيرُ عمليةُ الحماية القانونية في الاتجاه الصحيح، لاسيما بعد قراراتِ إنشاءِ الحدائق، والتحكم بالزراعة والتنمية الحضرية المتوافقة مع القيم المعمارية والأثرية والطبيعية للمواقع. ينبغي دعمُ هذا الأمر من خلال مراجعة قانون الآثار لتحسين حماية المواقع الطبيعية الثقافية.
تُدارُ هذه التجمعات حالياً من قبل المديرية العامة للآثار والمتاحف بصورةٍ مؤقتة. سيشتمل هيكل الإدارة النهائي على ثمانية منتزهاتٍ أُنشئت لكلّ موقعٍ من المواقع الثمانية، وعلى مركزين للإدارة وبيتٍ للتراث لإدارة المجمع ككل ولتنسيق الحفظ الأثري، وذلك بتوجيه من المديرية ووزارة السياحة والمحافظين. أُنشئت هذه الهيئات في الوقت الحالي وهي أساسية. وبالتنسيق مع البلديات ستكون مهمتها الإشراف على الاقتصاد الناجح، والتنمية السياحية والاجتماعية المتلائمة مع الحفظ والتعبيرعن القيمة العالمية الاستثنائية لهذه المواقع.