الفيزياء والفلك > فيزياء
إعادة تشغيل مصادم الهادورنات الكبير: ما الذي يأمل العلماء أن يحصلوا عليه؟
بمحيط يبلغ 27 كيلومتراً، وبعمق حوالي 100 متر تحت الأرض، تصدّر مصادم الهادورنات الكبير LHC التابع للمركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN مُعظم الأخبار الهامة المتعلقة بفيزياء الجُسيمات وفيزياء الطاقة العالية منذ إطلاقه للعمل عام 2008، وذلك كأكبر وأقوى مُسرّع جسيمات قد تم بنائه حتى الآن. البعض ويذهب القول بالبعض لأن يعتبروا هذه الآلة فائقة الضخامة أعظم ما قام الإنسان بتصنيعه.
عمل مصادم الهادرونات الكبير بسيط من حيث المبدأ: إطلاق حزم من البروتونات وتسريعها لمستويات طاقة عالية كانت تصل إلى 4 تيرا إلكترون فولط في كل حزمة، حيث يتم إطلاق حزمتين متعاكستين، وتسجيل الاصطدام الذي يحصل بينهما، ومن ثم جمع البيانات عن نتائج هذا الاصطدام. قد يبدو للبعض هذا الأمر عملاً روتينياً، ولكنه في الواقع ينطوي على بحثٍ ضخم ومكثف ضمن كمياتٍ هائلة من البيانات التي يتم الحصول عليها. ما الهدف الأساسي؟ وفقاً للعلماء، فإن الهدف هو إعادة تشكيل الظروف الأولى التي تشكل الكون فيها، واكتشاف الجُسيمات الأساسية التي تُكوّن وتُشكّل كل شيء من حولنا، وإثبات صحة الفرضيات الفيزيائية الحالية، والتي يبحث أصحابها عن إثباتات تجريبية ملموسة لها.
وما بين عامي 2008 و 2011، عَمِل المسرع بشكلٍ متواصل لـ 3 سنوات، وتم إجراء العديد من تجارب الصدم، وتم تسجيل البيانات والمعطيات الناتجة عنها ضمن مركز معالجة المعطيات التابع لـ CERN. بالنسبة للفيزيائيين فذلك يعني أن عملهم قد بدأ للتو: عليهم البحث ضمن مجموعات البيانات الضخمة وتحليلها ودراستها، من أجل إثبات صحة فكرة أو فرضية ما، وهذا ما حصل مثلاً عام 2012 عندما تم الإعلان عن تأكيد وجود بوزون هيغز بنسبة 99.99%.
ولكن منذ عام 2011، دخل المُسرع بفترة استراحة، واستطاع الفيزيائيون التجريبيون أن يحصلوا على قسطٍ قليل من الراحة. مع الأسف، لن يستريح الجميع، فمع خروج الفيزيائيين التجريبيين من منصات العمل، حان الدور للمهندسين المسؤولين عن صيانة وتحديث المسرع للدخول، فوفقاً لـ CERN، فإن فترة إيقاف تشغيل المسرع ستستمر حتى عام 2015، وستتضمن تحديثاتٍ كبيرة بكل الأجزاء المتعلقة به: المغانط الفائقة، حلقات الكواشف، طاقة العمل، القدرة الحاسوبية لمراكز جمع ومعالجة البيانات،كل شيء تقريباً. وأحد الأهداف الأساسية للتحديث هو رفع الطاقة التي يحملها شعاع البروتونات الواحد المنطلق ضمن حلقة المسرع إلى 7 تيرا إلكترون فولط، أي أن الشعاعين المتعاكسين سيحملان طاقةً كلية تصل إلى 14 تيرا إلكترون فولط، وهو ضعف الطاقة التي كان يعمل عندها المسرع سابقاً.
وعلى الرغم من الإنجازات الهامة التي تم تحقيقها بفضل المسرع، إلا أن الفيزيائيين لا زالوا يأملون بالحصول على المزيد من البيانات عندما إعادة تشغيله بعد الانتهاء من التحديثات وعمليات الصيانة. بيانات كهذه قد تتضمن إجابة على أسئلة مثل: هل جسيم بوزون-هيغز المكتشف حديثاً هو الوحيد من نوعه كما تتوقع نظرية النموذج المعياري، أم أنه جزء من أسرةً أكبر من الجسيمات؟ والإجابة على سؤال كهذا ، تتطلب أن يتم إجراء تجارب عند طاقاتٍ أعلى للبحث عن هذه الجسيمات المفترضة، أو عن الأسرة الكبيرة لبوزون هيغز.
بالإضافة إلى ذلك فإن بعض الفيزيائيين يتساءلون عما قد ينتج عنه تشغيل المسرع عند طاقاتٍ أكبر، كأن يكتشفوا مثلاً جسيماتٍ جديدة لم تتنبأ بها نظرية النموذج المعياري، وبالتالي فإننا نتحدث هنا عن ضرورة التوصل لأطر فيزيائية أكثر شمولية، وفيزياءٍ جديدة قد تفتح لنا أبواباً لم نكن نتصورها أو نتخيلها أساساً. أو قد تكون هذه الجسيمات الجديدة المفترضة هي الجسيمات التي تتنبأ بها فرضية "التناظر الفائق Sypersymmetry" والتي اقتُرحت في بداية سبعينيات القرن الماضي. ووفقاً لهذه النظرية الموسعة للنموذج المعياري، فإن كل جسيم مادي معروف له نظير فائق أو نسخة أكبر كتلة منه، ويسميها العلماء Sparticles (بإضافة S لكلمة جسيم أو particle)، ويعتقد أن أحد هذه الـ "Sparticles" من المكونات الأساسية للمادة المظلمة التي تشكل 25% تقريبا من الكون، ومع ذلك لا نعرف عنها سوى القليل جداً. وهنا تعود فكرة الفيزياء الجديدة للظهور مرةً أخرى، فنّظرية النموذج المعياري الأكثر قبولاً وانتشاراً في الوقت الحالي، لا تتضمن المادة المظلمة ضمن إطارها.
فإذاً يمكننا الحديث بشكلٍ مطول عما يأمل الفيزيائيون أن يحصلوا عليه بعد عمليات التحديث والصيانة التي تجري الآن في مُصادم الهادرونات الكبير، ولكننا لن نتطرق إليها الآن، بل سنتطرق للعمل الجبار الذي يقوم الفنيين ومهندسو الصيانة، من أجل رفع كفاءة وتعزيز عمل هذه الآلة الجبارة.
- نقر وحفيف :
على عمق 100 متر تحت سطح الأرض، تقبع حلقة المسرع الخاصة بمصادم الهادرونات الكبير، ويمكنكم عندها مشاهدة المغانط الضخمة ذات الألوان الزرقاء اللامعة. هنا يمكنكم سماع "دندنة" المصادم، حيث يسمع أصوات نقر وحفيف بشكلٍ متواصل والناتجة عن عمل المغانط.
المغانط مثبتة بالأرضية الاسمنتية عبر مقابس ثقيلة وضخمة، ويبلغ وزن كل من هذه المغانط 35 طناً، وبطول 15 متراً، وتحوي هذه المغانط ضمنها شبكةٍ معقدة من الأسلاك، بحيث تقوم المغانط بتغليف الأنابيب المحكمة التي تمر عبها حزم الجسيمات المتصادمة. ومن أجل ضمان عدم حصول أية مشكلة في الدارات الكهربائية (خصوصاً مشاكل القصر الكهربائي، والتي حدث أحدها قبل بدء تشغيل المسرع عام 2008، وكلف إصلاحها ملايين الدولارات وتأخير زمني مقداره عدة أشهر) تم تضمين العديد من الحساسات وعشرات الكيلومترات من الكابلات التي تعمل على كشف أصغر تغير بارتفاع الجهد الكهربائي، كما تم تعزيز واستبدال 10000 من الوصلات فائقة الناقلية التي تقوم بربط المغانط، وهي المهمة التي تطلب تنفيذها وجود أكثر من 250 شخص ومدة زمنية مقدارها عام كامل.
ومنذ شهر حزيران/يونيو، عمل الفريق المشرف على تبريد المغانط إلى درجة حرارة التشغيل المناسبة وهي 1.9 كلفن، وهي الدرجة المناسبة التي يتحول فيها التيار الكهربائي ضمن الكابلات للحالة فائقة الناقلية، وهو أمرٌ هام وضروري من أجل توليد الحقول المغناطيسية عالية الشدة ضمن المغانط، ومن أجل ضمان التحكم الفعال بهذه المهمة، تم تقسيم حلقة مصادم الهادرونات الكبير إلى ثمانية أقسام كل منها يتم تبريده بشكلٍ مستقل، وحالما يتم الانتهاء من تبريد المغانط (وهي مهمة تتطلب شهرين لكل قسم) سيقوم الفريق بإجراء مجموعة من الاختبارات الكهربائية لضمان التشغيل عند الطاقة القصوى. مع ذلك قد تحصل بعض المشاكل، وأهمها خروج المغانط من حالية الناقلية الفائقة عند الوصول لطاقة حزمة قريبة من 6.5 تيرا إلكترون فولط، ومن أجل تجنب ذلك، فإن تشغيل المسرع المتوقع عام 2015 سيتضمن تشغيلاً تجريبياً بالبداية، والتأكد من عمل المغانط بالشكل الصحيح عند الطاقات القصوى والمطلوبة، وذلك قبل البدء بتجارب الصدم وتشغيل الكواشف لتسجيل البيانات. تتضمن عمليات الإصلاح أيضاً تسخين أنابيب الهواء المفرغ من أجل ضمان تخليلتها من الجزيئات الشاردة. عمل المسرع دقيق، ويجب أن تخلو عمليات الصدم من أي مؤثر أو خطأ بسيط قد يؤدي لحدوث أخطاء في عمليات تسجيل البيانات وتحليلها، مهما كان هذا المؤثر صغيراً.
- تحدي البيانات الضخمة :
عند إعادة تشغيل مصادم الهادرونات الكبير، فإن المعطيات والبيانات التي تسجيلها ضمن الكواشف سيتم إرسالها إلى المجمع الرئيسي للمركز الأوروبي للأبحاث النووية عبر كابلات الألياف البصرية، حيث يتم وصلها مباشرةً بمختبر قسم الحوسبة التابع لـ CERN، والذي يتضمن أكثر من 100 ألف معالج، وعدداً كبيراً من المراوح التي تتحكم بدرجة حرارة تشغيل هذا العدد الكبير من المعالجات.
تقوم هذه المعالجات بتحليل البيانات القادمة إليهم، وذلك عبر استخدام خوارزميات لتحديد هوية الجسيمات، طاقتها، واتجاه كل جسيم ناتج عن كل تصادم. يتم تخزين هذه النتائج ضمن أقراص تسجيل مغناطيسية. حتى الآن، لم يتم تحليل البيانات للوصول لاكتشافات فيزيائية جديدة، وكي نكون دقيقين أكثر فإن العمل الحقيقي لم يبدأ بعد!
من أجل أن نوضح أكثر: كمية البيانات الناتجة عن تجارب الصدم المختلفة في مصادم الهادورنات الكبير تعادل 15 بيتا بايت (أي 15 مليون مليار بايت) بشكلٍ سنوي، وهي كمية بيانات أكبر من كل الفيديوهات التي يتم رفعها على موقع يوتيوب سنوياً. الآن، ومع رفع طاقة تجارب الصدم بمقدار الضعف، فإن كمية البيانات ستتضاعف لتصبح 30 بيتا بايت سنوياً على الأقل، أي أنه عند إعادة تشغيل مصادم الهادرونات الكبير سينتج بيانات بحجم 1 غيغا بايت بكل ثانية. هذه كمية هائلة من البيانات، وستتطلب آلاف المبرمجين والفيزيائيين من أجل تحليلها. ومن أجل ذلك، فقد قام قسم معالجة المعطيات التابع لـ CERN بتأسيس الشبكة الحاسوبية العالمية، والتي تتألف من عقدتين أساسيتين: العقدة الأولى هي "tier-1"، وتتألف من مئات المراكز الحاسوبية حول العالم، حيث تحصل هذه المراكز على نسخ من البيانات المسجلة لدى CERN. تتصل عقدة "tier-1" مع العقدة الثانية والتي هي "tier-2"، وهي تتألف من حوالي 150 تجمع حاسوبي حول العالم، معظمها في الجامعات.
عند وصول البيانات إلى المستخدم النهائي، كل ما على الفيزيائي أن يقوم به هو استلام برنامج من الشبكة، وتحديد حادثة صدم من أجل فحصها وتحليلها عبر برنامجٍ يقوم بوضعه. بعد ذلك تقوم الشبكة بشكلٍ آلي بنقل المهمة إلى مركز يمتلك القدرة الحاسوبية الكافية لتشغيل البرنامج الذي قام الفيزيائي بوضعه، ومن ثم إعادة النتائج. هذا الأمر البسيط يتم عبر العالم كله، وخلال يوم عمل اعتيادي ضمن CERN، فإن البث المباشر يظهر أنه يوجد حوالي 10500 مبرمج يعملون ضمن CERN وحدها، وهذا العدد من المبرمجين يمثل 6% فقط من مصادر الشبكة الحاسوبية التي تتولى عملية تحليل البيانات واختبارها.
لن يتوقف تدفق البيانات عند هذا الحد: الخطط الخاصة بالتحديثات المستقبلية لمصادم الهادرونات الكبير، تشير إلى أن حجم البيانات الناتج عن تجارب الصدم المختلفة سيصل إلى حوالي 110 بيتا بايت بالسنة الواحدة بحلول عام 2020، والخطط البعيدة تشير إلى أن حجم البيانات سيصل إلى حوالي 400 بيتا بايت. حالياً، فإن المشرفين في CERN لا يمتلكون الطريقة الواضحة للتعامل مع هذه الكميات الهائلة من البيانات، ولتصبح الأمور أسوأ، فإن التقارير الخاصة بتطور صناعة الرقاقات والمعالجات الحاسوبية تشير إلى حالة ركود بزيادة قدرة وسرعة المعالجات الحاسوبية اعتماداً على تقنيات التصنيع الحالية. أكثر من ذلك، فإن المعالجات الحالية تتضمن عدة أنوية معالجة ضمن الشريحة الواحدة، وهي تصل حالياً إلى ثمانية أنوية معالجة ضمن الشريحة الواحدة، وقد تصبح مستقبلاً أكثر من ذلك. المشكلة المتعلقة بهذا الموضوع أن الكودات البرمجية المخصصة لتشغيل مصادم الهادرونات الكبير قد صممت بحيث تستخدم على نواة معالجة واحدة، مما يعني أن استخدام الشرائح والمعالجات متعددة الأنوية بشكلٍ تفرعي سيتطلب إعادة كتابة أكثر من 15 مليون سطر برمجي يتم كتابتها سنوياً، وذلك من أجل تشغيل عمليات تحليل البيانات على هذا النمط من الشرائح والمعالجات متعددة الأنوية.
على الرغم من ذلك، فإن العلماء يشعرون بالثقة تجاه إيجاد حلول من أجل المشاكل الخاصة بحجم البيانات: فعندما احتاجوا لوسيلة فعالة لتبادل البيانات في بداية الثمانينات كانت النتيجة هي الشبكة العنكبوتية العالمية د، وعندما احتاجوا وسيلة أكثر فعالية لتحليل ودراسة البيانات، قاموا بإنشاء الشبكة الحاسوبية العالمية الخاصة بـ CERN، وهم متأكدين الآن أنهم سيصلوا لطريقةٍ فعالة لحل مشكلة تحليل البيانات الضخمة في المستقبل.
ماذا عن المستقبل؟ حسناً، لا يزال أمام مصادم الهادرونات الكبير حوالي 20 عام من تجارب صدم البروتونات. هل هذا كافي؟ بالنسبة لفضول العلماء وشهيتهم العلمية: قطعاً لا. لقد بدأ الحديث منذ الآن عن خطط لبناء مسرع جسيمات عالمي بطول يبلغ 80-100 كيلومتر (وهو المسرع الذي قد يطلق عليه اسم VLHC) بحيث يؤمن للعلماء نظرةً أعمق وأكثر تفصيلاً في بنية المادة. ولكن إذا كان مصادم الهادرونات الكبير الذي افتتح عام 2008 قد خطط لبنائه منذ عام 1984، هل سنشاهد المسرع الجديد ضمن فترة حياتنا، أم لا؟
المصدر: هنا