البيولوجيا والتطوّر > التطور
الأحياء الدقيقة المتعايشة في أمعاء الدبابير تمنعها من التزاوج لحمياتها من موت محتم!
يقوم جسم الكائن الحي فطرياً بحماية نفسه من الزوال والحفاظ على نوعه من الانقراض، ويتبع طرق عديدة في سبيل ذلك، سنعرض في هذه المقالة طريقة غريبة ومثيرة للاهتمام تتبعها أنواع من الدبابير بمساعدة أحياء دقيقة تعيش داخل أمعائها..
يمكن للسلاسل الجبلية والأنهار أن تلعب دور الحواجز المادية التي تفصل بين الأنواع الحية المتقاربة إلى حدٍ كبير، وتمنعها من التزاوج الخلطي فيما بينها cross breeding، لكن بلايين الجراثيم الموجودة في أمعاء الحيوان قد يكون لها نفس هذا الدور.
فقد وجد العالمان Robert Brucker و Seth Bordenstein من جامعة فاندربلت Vanderbilt University في ناشفيل بأن الجراثيم المعوية لنوعين متقاربين من الدبابير -تم فصلهما تصنيفياً مؤخراً- تتصرف كحاجزٍ حي يمنع عودة توحد المسارين التطوريين لهذين النوعين، حيث تملك هذه الدبابير مجموعاتٍ مختلفةٍ وحساسةً من الجراثيم المعوية، إذا ما تزاوج أفراد النوعين خلطياً، تنمو عند الهجائن** فلورا جرثومية مشوهةً تؤدي إلى موتها المفاجئ. وبحسب دراسةٍ أُجريت العام الفائت، فإن هذا الدليل يعد الأكثر إقناعاً بأن الفلورا الجرثومية تتطور مع المضيف خلال فتراتٍ زمينةٍ طويلةٍ، ويمكن أن تؤثر بالتالي على عملية الاصطفاء النوعي له.
ويشير الباحث في علم الأحياء التطوري من جامعة أريزونا Jurgen Gadau بأن الفلورا الجرثومية هي واحدةٌ من عدة عوامل تشارك في قيادة أصول الأنواع. ولكن النقطة المهمة هي أن الجراثيم يمكن أن تتغير بسرعةٍ كبيرةٍ، وبالتالي فإنها تفصل بين الأنواع الناشئة بسرعةٍ كبيرةٍ أيضاً.
تم التركيز في دراسات الفلورا الجرثومية المعوية بغالبيتها على الزاوية الصحية، بينما لم تُدرس من الناحية التطورية بشكل كافٍ، وقد أشار علماء آخرون إلى أن الفلورا الجرثومية للأنواع المختلفة تتباين في الطريقة التي تعكس فيها مضيفيها(أي تعكس وعبر عن العلاقات التطورية الخاصة بمضيفتها). ولكن لم يتضح بعد إذا ما كانت هذه البكتيريا تستجيب لتغير النظام الغذائي لمضيفها، أو أنها تشارك في التطور معه.
قام الباحثان Brucker و Bordenstein بمعالجة ذلك عن طريق دراسة نوعين من الدبابير الطفيلية وهما Nasonia giraulti و Nasonia vitripennis، وكلاهما يودع بيوضه في يرقات الحشرات الأخرى. ورغم تباعد النوعين عن بعضهما قبل مليون سنة مضت، مازال كلاهما يربي صغاره على نفس المضيفين، وعندما يحصل تزاوج بين هذين النوعين، فإن نحو 90% من الذكور تموت وهي ماتزال في المرحلة اليرقانية.
وجد الباحثون بأن الجراثيم المعوية للدبابير تتضمن نوعاً جرثومياً يسمى Providencia ونوع آخر يسمى Proteus mirabilis. بحيث تملك الأنواع الأبوية*** كميةً أكبر من النوع Providencia ، بينما يكون النوع P. mirabilis هو السائد في الهجائن. وهذا يوحي بأن التهجين بين الأقارب inter breeding يؤدي إلى تغيرات ضارة للفلورا المعوية، ولهذا السبب فإن جرائيم الحشرات تساعد على إبقاء هذين النوعين منفصلين ومنعهما من التزاوج.
للتأكد من أن الفلورا المختلفة هي المسؤولة عن زوال الذكور، حاول الفريق علاج الدبابير الهجينة بواسطة الجراثيم المعوية الخاصة بها، وابتكروا وسيلةً لتربية بيوض Nasonia في سائل مغذٍ بدلاً عن الحشرة المضيفة، ثم تم قتل الجراثيم في أمعاء الدبابير النامية باستخدام المضادات الحيوية. وهذا ما أنقذ العديد من الهجائن من الموت المحتم، نصفهم نجا حتى وصل إلى مرحلة التشرنق. لكن عندما أضاف الفريق النوعين Providencia و P. mirabilis إلى السائل المغذ للدبابير الخالية من الجراثيم مبدئياً، فإن معظم اليرقات الهجينة ماتت كما كان يحدث عادة.
المورثات والجراثيم:
علق جاك رين Jack werren، وهو عالم مختص بالوراثة التطورية في جامعة Rochester في نيويورك، بأن هذه الدراسة هامة وقد تكون رائدة في مجالها، فهي تكشف بأن المشاكل في الهجائن قد لا يعود سببها إلى التركيبة الجينية فقط، بل أيضاً إلى التفاعلات بين مورثاتها والجراثيم المرتبطة بها، والخطوة التالية هي تحديد أي من المورثات يشارك في التنظيم واختيار أنواع الجراثيم والطريقة التي يتم تعطيلها في الهجائن(مما يسبب موت الهجائن فيما بعد).
وجد كل من Brucker و Bordenstein أن 40% من الجينات المناعية عند هجائن الدبابير العادية كانت أكثر فعاليةً بمرتين على الأقل من تلك الخالية من الجراثيم. ويظن الباحثان أن عدم التوافق الجيني بين الأنواع الأبوية يعطل الأنظمة المناعية للهجائن ويضعف قدرتهم على التحكم بالجراثيم المعوية الخاصة بهم، وبالتالي ينتهي المطاف بالحشرة بفلورا غير طبيعية والتي تتسبب في قتلها، وأقرب تشبيه لهذا عند البشر هو إصابة الإنسان باضطراب في جهازه المناعي.
وبهذه الطريقة، فإن الفلورا الجرثومية للحشرات تساعد على الفصل بين النوعين والتمييز بينهما، حتى لو كانا يشتركان في المنطقة الجغرافية نفسها. بالإضافة إلى ذلك، فقد وجد في دراسةٍ سابقة، أن الجراثيم المعوية يمكنها توجيه الرغبات الجنسية للدبابير بحيث تنجذب للأفراد ذات الميكروبات المماثلة، الأمر الذي يساهم بدوره في الفصل بين الأنواع ومنع التزاوج فيما بينها فضلاً أي أنه يمنع حدوث تزاوج بين النوعين المختلفين(هذا التزاوج الذي لن يثمر كون معظم الهجائن ستموت) وبالتالي نحصل على تزاوج مثمر أكثر.
يضيف Brucker، نحن لانقول بأن الفلورا الجرثومية هي العامل الأساسي في الاصطفاء النوعي، لكن يجب على العلماء وضع كل من الجينوم والفلورا الجرثومية بعين الاعتبار لفهم تطور الحيوانات. فما يزال فهمنا الكلاسيكي للاصطفاء النوعي صحيحاً، ولكن يمكن القول أن هذه الدراسة قد أضافت له شيئاً جديداً.
الحاشية:
*الفلورا الجرثومية: هي الجراثيم التي تعيش طبيعياً في جسم الكائن الحي.
**الهجائن: حيوان ينتج من تزاوج فردين من نوعين مختلفين.
***الأبوية: في علم الوراثة نقصد بالأبوية تلك التي تنتمي إلى الاب أو الأم على حد السواء.
المصدر: هنا
مصدر الصورة: هنا