الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
المنطق العلمي ومشكلة الاستقراء
هل تساءلت يوما لماذا لا يفحص العلماء حبات الرمل حبّةً حبّة؟ فيقيسون أوزان كل منها، وحرارتها المتغيرة ولونها وحجمها، و بعدها عن القمر؟ لماذا لا يدرسون الشكل المتغير واللون المتغير لكل غيمة تمشي فوق رؤوسنا ؟ لم لا؟
يعتمد العلماء عند حلّ مسألة/مشكلة ما على تحقيقات علميّة، حيث يقترحون أجوبة تجريبيّة مؤقتة على هيئة "فرضيّة" ومن ثم يتم وضع هذه الفرضيّة تحت الامتحان عن طريق اشتقاق تطبيقات مناسبة لها منها ومن ثمَّ فحص هذه الملاحظات أو التجارب.
ولكن كيف يتحصّل العلماء على الفرضيّة المناسبة في البداية؟
يقال بأنّه يستدّل عليها من معلومات مجمّعة سابقة بوساطة طريقة تدعى الاستدلال الاستقرائيّ وهي طريقة تختلف عن الاستدلال الاستنتاجيّ.
ماهو الاستدلال الاستقرائي؟
يعتمد على استقراء عدّة ظواهر معينة متشابهة وإرجاعها الى سببٍ واحد. فهو ينتقل من الجزئيّ الى الكليّ. ويتسم هذا المنهج بالبساطة.
نتّبع جميعنا هذا المنهج في حياتنا اليوميّة عندما نتعلم، فحين نتعلم قيادة السيارة، على سبيل المثال، نتعلم كيفيّة تشغيل المحرّك بوساطة المفتاح، ثم نعمّم هذه التقنية لاستخدامها في نماذج أخرى من السيارات.
كما أنّ هذا المنهج جزء لا يتجزأ من العلم.
لكن ماهي مشاكل هذا المنهج ؟
يعترض الكثير من الفلاسفة على هذه الطريقة بالاستدلال، كمثال عن ذلك الفيلسوف هيوم الذي يقول: بأنه منهج يعتمد على إسقاط نتائج الحالات التي فحصت على حالات لم تدرس بعد!
أولاً هناك افتراض التعميم. الاستقراء يتطلب تعميم خصائص مجموعة من الأجسام بناء على الملاحظات المتكررة لحالة واحدة بالذات. على سبيل المثال، فإننا قد نستنتج أنَّ جميع الخراف بيض، استناداً إلى حالات متعددة من مراقبة الأغنام البيض فقط، ولكن لاحقاً سيثبت أنّ هذا خطأ، عندما نكتشف خروفاً أسود. وهذا من شأنه أن يجعل أيّ اقتراح مستمد من التعميم غير صحيح.
على الرغم من مشكلة أنَّ وجود حالاتٍ شاذة جعل الكثير من الفلاسفة ينتقدون هذا المنهج لاعتماده على التعميم، إلا أنّه دفع الكثير من الآخرين للاعتقاد بصحته، فوفقاً لوجهة نظر الكثيرين يؤكد وجود الحالات الشاذة القاعدة الأساسية، أيّ أنّه لو لم تكن أغلب الخراف بيضاء لما أثار انتباهنا وجود خرافٍ سوداء. من الجدير بالذكر وجود مثل شعبيّ ألمانيّ يقول: (Ausnahmen bestätigen die Regeln) ومعناه: الحالات الشاذة تثبت القواعد.
مشكلة اخرى تشوب المنهج الاستقرائيّ، وهي افتراض التماثل:
فاعتماداً على حقيقة أنَّ سلسلة من الوقائع حدثت في الماضي نفترض بشكلٍ مؤكّد أنها ستتكرر في المستقبل. أي أنّنا نقول أنّ المستقبل سوف يكون نفسه كما في الماضي لأنه في الماضي كان المستقبل هو نفسه كما في الماضي!!
مثال: الشمس سوف تشرق غدا لأنّها اشرقت البارحة!
أمّا المشكلة الثالثة التي أثيرت في نقد المنطق الاستقرائيّ من قبل الفيلسوف هيوم فهي السببيّة، حيث تقترح:
إن وجود علاقة سببيّة بين عنصرين أ و ب يقتضي أنّ:
1) أحد هذين العنصرين يسبق الأول دائماً (الوقتية)،
2) يكون السبب والنتيجة متصلين (التواصل المكاني)، و
3) هناك نوع من القوّة في أ لتؤديّ إلى ب (اتصال ضروري).
هذه النقطة الثالثة إشكاليّة فلسفيّاً، حيث أنّها تتطلّب عنصراً نظريّاً أيّ "شيئاً موجوداً في العقل وليس في المادة". وهذا يعني، أنّ نيّة او مفهوماً فكريّاً هو الذي يربط بين هذين النوعين من الأجسام أو الحوادث. يشير هيوم بأنّ أذهاننا هي المسؤولة عن خلق هذا النوع من السببيّة بين الأشياء أو الأحداث بينما في الواقع ينبغي اعتبارها حالات معزولة منفصلة. وقد أجبرت النسبية وميكانيك االكم علماء الفيزياء على التخلي عن هذه الافتراضات التي بنيت على السببيّة، حيث أنّها لايمكن أن تطبق على مستوى الجسيمات دون الذرية. ولكن يبدو أنها لا تزال صالحة لما يحدث على مستوى التجربة الإنسانيّة.
المشكلة الأكبر في المنطق الاستقرائيّ، أنّه لحلّ هذه المشكلة نعتمد على السببيّة والمنهج الاستقرائي! فنخلق نوعاً من المنطق الدائري! أي أنّنا ندور في حلقةٍ مفرغة.
معضلة الاستقراء حجّة كثيراً ما تستخدم من قبل الفلاسفة "لضرب" العلم، عن طريق الإيحاء بأن العلم ليس أفضل من الروايات البديلة الأخرى لتفسير العالم. ومع ذلك، اقترح كارل بوبر حلاً جزئيّاً لمشكلة الاستقراء عن طريق" قابليّة الخطأ"، وتشارلز سوندرز بيرس يعطينا الإطار العملي الذي يظهر فعاليةّ كبيرة في توليد نتائج جيدة في نموذج الفرضيّة- الاستنتاجية.
لذلك عملياً تبقى مشكلة الاستقراء فلسفية أكثر منها عملية في طبيعتها.
References
Hempel، C. G. (1965). Aspects of scientific explanation and other essays in the philosophy of science. New York: New York Free Press.
Hume، D. (2000). A treatise of human nature (originally published in 1739). Oxford: Oxford Philosophical Texts.
Image credit: هنا