الطبيعة والعلوم البيئية > عمارة وأرض
عالم أكثر خضرة، لبشر أكثر صحة وإنتاجية
يهدف العلم في جملة ما يهدف، إلى تفسير جميع الظواهر من حولنا، وقد انشغل العلماء في محاولةٍ للتأكد من تأثير النباتات الخضراء على عملنا وصحتنا ... مؤخراً قام العلماء ببحثين مختلفين؛ تناول الأول التأثير "الأخضر" على العمل، بينما قيـّم الثاني دور الخضرة في صحة الأفراد.
تجعل المكاتب الخضراء (التي تحوي نباتات) من الموظفين أكثر سعادةً وإنتاجيةً من المكاتب المصممة بدون هذا المكوّن، ففي أول تجربة من نوعها، بيـّن بحث جديد أن إغناء المكاتب المضغوطة lean office* بالنباتات يزيد الإنتاجية لـ 15%. قام الفريق باختبار تأثير المكاتب المضغوطة وتلك "الخضراء" كما يتصوره الموظفين، حول نوعية الهواء والتركيز والارتياح في مكان العمل، كما راقب الفريق مستويات الإنتاجية خلال الأشهر اللاحقة في اثنتين من الشركات الإنتاجية الكبيرة في المملكة المتحدة وهولندا. يشير البحث إلى أن وجود المناظر الطبيعية في المكاتب يؤدي لنتائج إيجابية على الشركات، من خلال زيادة نوعية الحياة والإنتاجية، ورغم أن بحوثاً مخبرية سابقة أشارت إلى هذه الحقيقة، إلا أن ما يميز البحث الجديد، هو كونه الأول من نوعه الذي تم في بيئات عمل حقيقية، وبيـّـن الفوائد على المدى الطويل، وهذا يتحدى الاعتقاد السائد بأن المكاتب المكتظة ذات المناضد النظيفة منتجة بشكل أكبر.
إن نباتات المكاتب تزيد الرضى عن العمل، وتزيد التركيز (بتقديره من وجهة نظر الموظفين أنفسهم)، وكذلك نوعية الهواء المتوقعة. أما عن السبب الذي يجعل النباتات مفيدة، فهو لكونها تجعل الموظفين منخرطين أكثر جسدياً وذهنيا ًوعاطفياً في أعمالهم، فالتلاعب النفسي بمكان العمل يعدل من تأثيره، ويضيف لفهمنا بُعداً جديداً لما هو صحيح أو خاطئ في تصميم مكان العمل وإدارته.
من هنا بدأت محاولات تطوير نماذج مستقبلية للمكاتب الذكية. كانت فلسفة المكاتب المضغوطة –حتى زمن ليس بالبعيد– تلاقي رواجاً في المجالات التنظيمية، بسبب وجود قناعة بأن المكان الأصغر يعني إنتاجاً أكبر، لكن أحياناً يكون العكس هو الصحيح. إذاً .. برأي القائمين على البحث، ينبغي على أصحاب الشركات إعادة النظر في مكاتبها المضغوطة، ليس فقط من أجل صحة الموظفين؛ بل من أجل الحفاظ على الصحة المالية للمنشأة أيضاً.
في بحث آخر متصل، ركـّزت الدراسة على مستوى أهم، يتصل بحياة الأفراد في مساكنهم بعيداً عن مكان عملهم، حيث اتضح أن الأمهات اللواتي يعشن في أحياء تحوي مساحات خضراء (أعشاب، أشجار، ونباتات مختلفة)، هـُنّ أكثر عرضةً لقضاء فترة حمل كاملة قبل الولادة، وينجبن أطفالاً بأوزان أعلى من اللواتي يعشن في المناطق المدنية التي لا خضرة فيها. أثناء الدراسة، تم مراعاة تماثل العوامل المؤثرة الأخرى، مثل الدخل المادي لقاطني الحي، تلوث الهواء، الضجيج، وإمكانية السير في الحي. كان النتيجة مفاجئة، فالمتوقع أن يختفي الرابط بين الخضرة في الحي وطبيعة الولادات بمجرد زوال التأثيرات البيئية الأخرى كالتلوث والضوضاء؛ لكن تبين أن النباتات الخضراء تؤثر بنتائج الولادة نفسياً واجتماعياً.
شملت الدراسة 64 ألف حالة ولادة؛ حيث كانت نسبة المواليد الذين وُلدوا قبل الأجل، للنساء اللواتي يقطـُن في الأحياء الخضراء 20 % أقل مقارنةً بنساء يَسكُنَّ أحياءً لا تحوي مساحات خضراء. كما أن وزن الرضع في الأحياء الخضراء يزيد على وزن الرضع في الأحياء المغايرة بـ 45 غراماً وسطياً.
حددت الدراسة علاقة ارتباطية جديدة وهامة بين طبيعة السكن ونتائج الولادات وهذا ما يؤثر في الصحة العامة. قد تعتبر هذه الاختلافات صغيرةً نسبياً من وجهة النظر الطبية، لكنها تُعد جوهرية ومؤثرة في صحة الرّضع فيما لو أخذت على نطاق واسع من السكان. فالمواليد بوزن أقل أو المولودين أبكر من الموعد المعتاد؛ غالباً ما يعانون مشاكل في الصحة والنمو، كما تكون تكلفة رعايتهم عند الولادة أكبر من الأطفال الطبيعيين، وبما أن أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في المُدن، فمن المهم معرفة الجوانب المختلفة للمناطق العمرانية.
لا تزال هناك حاجة لمزيد من الأبحاث من أجل معرفة تأثير المساحات الخضراء في تعزيز شعور الإنسان بانتمائه لمجتمعه، أو في الحد من التوتر والاكتئاب. قد تكشف الأبحاث المستقبلية الأكثر تقدماً عن مزيد من الفوائد البيئية لتغيير تصميم المُدن، مثل الوقاية من الأمراض وخفض تكاليف علاجها. إن المساحة المثالية والمناسبة من المسطحات الخضراء ليست واضحة في الوقت الراهن لكن المؤكد أن زراعة شجرة على الرصيف أو في منصف الطريق أو إضافة أصيص مزروع لفناء البيت لن يحدث فرقاً ملحوظاً وستكون العتبة المطلوبة عنوان الدراسات اللاحقة ولا شك.
للتوضيح:
(*) المكاتب المضغوطة lean office: مفهوم جديد للمكاتب أطلق على مكاتب الشركات التي تهدف الى استغلال المساحة بأكبر طريقة ممكنة، لكنه تعدى ذلك ليعبر عن نظام العمل في الشركات التي تقلل قدر المستطاع من الخطوات والوقت اللازم لتلبية طلب المستهلك للخدمة أو السلعة. فهي مضغوطة في المساحة وفي حجم العمل.
مصادر المقال:
مصدر الصورة: