الفنون البصرية > فن وتراث
اللوحاتُ السوداء، الرعب المقيم في منزل غويا الأصم.
تبدو الأمورُ هنا قد خرجت كثيراً عن حدود المألوف، فالإله زحل مازال يلتهمُ أحد أبنائه هناك قرب النافذة، ومن مقعدك بإمكانك أن ترى اثنين من الرهبان أحدهما يصرخ في أذن الآخر وكأنه خلق هكذا، انبثق من العدم ليترنم بنشيد الموت، إنه الخيال ما أن يهجره المنطق حتى تنبعث منه وحوش مستحيلة كما كان يقول غويا، وقد يكون من سوء حظنا أن منزل الرجل الأصم قد زال ولم يبق منه إلا الركام و 14 لوحة سوداء كانت مرسومة على جدرانه هي معروضة اليوم في متحف برادو في مدريد.
لا ينفك فرانشيسكو دي غويا من أن يكون لغزاً بحد ذاته، متناقضاً في كل شيء و غير قابل للتفسير، فهو رسام الشعب ورسام البلاط، هو مبدع الجمال و الإثارة في لوحة "مايا العارية - Maja Desnuda"، و هو نفسه خالق الرعب الصريح في " الثالث من مايو 1808"، لقد بدأ في عامه الرابع والسبعين وهو في السنوات الأخيرة من حياته برسم لوحات زيتية على جدران منزله المشهور في إسبانيا باسم "منزل الرجل الأصم - Quinta del Sordo".
ونحن في الواقع لا نعرف إلا القليل عن هذا المنزل و عن السبب الذي دفع غويا إلى تزيينه بأربعة عشر لوحة غريبة بعد أن اشتراه عام 1819، كان مبنى من طابقين أضاف له الفنان جناحاً جديداً للمطبخ، وكانت في المنزل غرفتان رئيسيتان في كل طابق، وقد تزينتا بزخرفات ريفية لطيفة إلى أن اشتراه الفنان و قام بإزالتها.
إذاً لماذا قرر غويا أن يستبدل تلك الزخارف بذاك الرعب الهائل المقيم في لوحاته السوداء؟ هل كان إحباطه بعد الحرب الأهلية الإسبانية (1820-1823)؟
ليس غالباً، فهذه اللوحات قد ظهرت بعد عقد واحد من نهاية الحرب، ربما يكون السبب إحباط نفسي قد أصابه بعد أن فقد سمعه بشكل كامل تقريباً تلك الفترة، وقد يكون للمرض الشديد الذي ألمّ به عام 1819 كلمةٌ أيضاً. في الواقع، أدت عزلته السياسية والفكرية والبشرية به إلى أن لا يرسم أحداً على الإطلاق إلا نفسه!
اللوحات السوداء هي في الواقع مظهر من المظاهر الأكثر تطرفاً من سوء الفهم المتزايد والقطيعة الشديدة بين المجتمع الحديث والفنان، صحيح أن العديد من الفنانين كانوا قد رسموا أو نحتوا إبداعات لا ليفهمها أو يتذوقها أحد سواهم، و لكن لم يحدث من قبل أبداً و منذ ذلك الحين (بقدر ما نعلم) أن تم إنتاج سلسلة بهذه الضخامة من اللوحات بنيّة إبقائها شأناً داخلياً خاصاً، إنها أكثر اللوحات خصوصية في تاريخ الفن الغربي!
لقد أزيلت اللوحات من جدران المنزل وقد أصابها ضرر لا بأس به عند تحويلها من حالتها الجدارية إلى حالتها الحالية، ويمكننا القول بأنه وعلى الرغم من السمعة السيئة والشهرة الظلامية لهذه الأعمال، فإنها لم تكن بمجملها قاتمة رهيبة كما في "زحل يلتهم ابنه" و "مبارزة بالهراوات"، ففي المجموعة لوحات ليس فيها أي أثر مرعب كلوحة "امرأتين و رجل"، أو حتى شخصية جميلة هادئة كما في "ليوكاديا"، وإن كنا قد تخيلنا المنزل محفوفاً بالظلام كما افترض بعض المؤرخين، فلا بد أن ننوه بأن للمنزل نوافذ عديدة تطل على مساحات شاسعة من الريف الإسباني الهادئ ولابد وأن أشعة الشمس كانت تغمر معظم أرجائه، كما أن وجود هذه النوافذ قد نظم توزع اللوحات على الجدران و حدد أحجامها بشكل ملحوظ.
لنستعرض سوية اللوحات الأربعة عشر بحسب توزيعها:
لوحات الدور الأرضي:
1) Witches Sabbath - سبت الساحرات:
تعتبر أهم لوحات المنزل لكنها للأسف قد خسرت جزءاً كبيراً من طرفها الأيمن عند نقلها من حالتها الجدارية، لا تبدو اللوحة مخيفة في الواقع إلا أنها مزعجة نوعاً ما، ولو قارنّا هذه اللوحة بلوحة أخرى رسمها غويا بنفس الموضوع عام 1798 للاحظنا بأن الشخصية الأساسية " He-goat - الماعز" كانت تنظر مباشرة باتجاه المشاهد وهذا ما لا يحدث هنا حيث تبدو أكثر تهميشاً و عزلة.
2) Saturn devouring his Son - الإله زحل يلتهم ابنه:
أشهر اللوحات السوداء ورمز الرعب والجنون، ومن المرجّح أن غويا كان قد اطلع على النسخة التي رسمها روبينز عام 1636 لكنه أراد أن يبتعد عن الرموز الميثولوجية قدر الإمكان حتى يركز أكثر على تعابير الوجه ليعكس أثر وحشية الفعل.
3) Judith and Holofernes - جوديث و هولوفيرنس:
إنها الأرملة الحسناء المشهورة جوديث وهي تقطع رأس هولوفيرنس العاشق، من أشهر الصور الميثولوجية وقد كانت موضوعاً لأكثر من 114 عملاً فنياً، وإن كنا نعلم بأن غويا لم يكن يحب ملك إسبانيا فيمكننا أن نفترض بأنه كان يرمز له بشخصية هولوفيرنس.
4) A pilgrimage to San Isidro - رحلة إلى سان إيسيدرو:
كرنفال من الوجوه المعذبة، وقد تم افتراض تفسيرين لها: الأول بأنها عبارة عن رؤية ملتوية لاحتفال شعبي كان يعقد على بعد عدة أميال من منزل غويا، والثاني يقول بأنها ترمز لاحتفال روماني في ستثرنليا تقديساً للإله الروماني زحل.
5) Leocadia - ليوكاديا:
كما تبدو في اللوحة هي امرأة جميلة استطاعت أن تحافظ على رباطة جأشها على الرغم من علاقتها المحتملة مع الشخص المدفون إلى جانبها.
6) Two monks - راهبان:
ربما كان يرمز فيها للحياة التعيسة لأولئك المنفيين بعد الحرب.
7) Two old men eating a soup - عجوزان يأكلان الحساء.
لوحات الدور العلوي:
8) procession of the holy office - موكب المكتب المقدس:
وكما يبدو فهي نقد شجاع مليء بالسخرية من هذه المحكمة سيئة السمعة.
9) Asmodea - أسموديا:
أسموديا كان شيطاناً قاتلاً في الميثولوجيا وقد استحضره غويا في اللوحة دون أي سبب واضح، كما تظهر امرأة تطوف في السماء حاملة رجلاً أصابه الهلع.
10) The Dog - الكلب:
ربما هي أكثر اللوحات غموضاً في كل المنزل، يظهر فيها كلب وقد اختفى جسده وكأنه اندمج في الخلفية، من أين أتى هذا الكلب؟ وبماذا يحدق؟ أهو يغرق أم أن رأسه عالق بشكل ما؟ يبدو خائفاً من شيء لا نعرفه! هناك في الواقع العديد من التفسيرات لهذه اللوحة تقول إحداها بأن الكلب هو ذاك الكائن الذي يقود الأرواح الميتة إلى جهنم و اعتبر رمزاً للهجر والإهمال.
11) Duel with Cudgels - مبارزة بالهراوات:
أكثر اللوحات رعباً إلى جانب "زحل يلتهم ابنه"، فنحن لا ننظر إلى حدث خيالي أو أسطوري فهذه مبارزة "حقيقية" بين شخصين مجهولين ولن تنتهي إلا بموت أحدهما، لقد اعتبرت رمزاً للحرب الأهلية.
12) The Fates - الأقدار.
13) Men reading - رجال يقرأون.
14) A man and two women laughing - رجل وامرأتان يضحكون.
المصادر: