كتاب > روايات ومقالات
رأيت رام الله.. رأيت الوطن السليب.
ما أجمل أن يكتب الشعراءُ النثرَ! أجملُ من شعر محمود درويش نثره، وأجمل من شعر نزار قباني نثره، ومريد البرغوثي لا يشذ عن القاعدة. "رأيت رام الله" سردٌ لسيرةٍ ذاتيةٍ فيها الكثير من الألم وأنهارٌ من الدموع المسكوبة على الوطن السليب وأبنائه التائهين في المنافي.
لا يمكن أن تقرأ هذا الكتاب دون أن تتحسس بلل الدموع بين الصفحات، فالأسى يتأرجح في كل كلمةٍ كنواسٍ يحمل معه آمال الفلسطيني ويشتتّها من جهةٍ إلى أخرى، فلا أرضه قادرةٌ على إيوائه ولا المنافي تحمل دفء الوطن واستقراره.
لعله من عبث القول أن نذكر العناوين التي استخدمها مريد البرغوثي في هذا الكتاب ليحكي لنا قصة الفلسطيني الذي صارت حياته حقيبةً صغيرة لا يحمل فيها إلا دماء القلب النازف على الوطن المسروق، يطوف فيها أرجاء المعمورة مشتّتاً في المنافي.
هذا الوطن الذي لم يتنازل عنه الفلسطينيون بإرادتهم، بل أُجبروا على تركه بكل عنفٍ ووحشية:
"أنا لا أعيش في مكان أنا أعيش في الوقت. أنا أبن جبل واستقرار. ومنذ تذكر يهود القرن العشرين كتابهم المقدس، أصابني الرحيل البدوي. وما أنا ببدوي."
يرى البرغوثي أن ما حدث في حرب الـ 67 أو ما عرف بالنكسة كان نقطة التحول الكبرى في الصراع مع سارق الأرض، وأن جميع ما جاء بعد هذا التاريخ كان تنازلات وتكيف مع هذه التنازلات والاستعداد لتنازلات أخرى وصلت أوجها في اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية.
"منذ الـ67 والنقلة الأخيرة في الشطرنج العربي نقلة خاسرة! نقلة إلى وراء. نقلة سلبية تنتكس بالمقدمات مهما كانت تلك المقدمات إيجابية. دائماً نتكيف مع شروط الأعداء منذ الــ67 ونحن نتأقلم ونتكيف!"
الكتاب يبدأ من لحظة دخول البرغوثي إلى رام الله بعد ثلاثين سنة من الانقطاع عنها وعدم السماح له بدخولها ويستمر لعدة أيام قصيرة هي مدة إقامته في الوطن. وعلى هذا المحور حمّل الكاتب كل شيء: طفولته وشبابه ودراسته للغة الإنكليزية في مصر وزواجه من رضوى عاشور الروائية المصرية وإنجابهما للثمرة اليانعة تميم الشاعر الذي لا يقل براعةً عن أبيه وكذلك معاناته من التضييق الذي مُورس عليه في مصر وفي معظم دول الشتات التي سكنها وذلك بأسلوب غايةٍ في الحزن والأسى.
"الغربة كالموت، المرء يشعر أن الموت هو الشيء الوحيد الذي يحدث للآخرين. الغريب هو الشخص الذي يجدد تصريح إقامته، وهو الذي يملأ النماذج ويشتري الدمغات والطوابع، هو الذي عليه أن يقدم البراهين والإثباتات. الغريب هو الذي يقول له اللطفاء من القوم (أنت هنا في وطنك الثاني وبين أهلك). هو الذي يحتقرونه لأنه غريب أو يتعاطفون معه لأنه غريب والثانية أقسى من الأولى".
في الكتاب لمعات يتجلى فيها صفاء النفس الإنسانية ووصولها لمعانٍ جليلةٍ لا تُدركُ إلا عند شاعرٍ يحمل بين ضلوعه قلباً يقطر حباً ودفئاً، انظروا إلى هذا القلب:
"كانت الولادة مُتعسرة، رأيتُ بعيني وجع الولادة فشعرت أن من الظلم ألا يُنسب الأطفالُ إلى الأم، لا أدري كيف اغتصب الرجل حق نسبة المولود لنفسه؟
ولم يكن شعوري مجرد رد فعل مؤقت على رؤية أم تتعذب في ساعات الوضع. مازلت أومن إلى الآن أن كُل مولود هو ابن والدِته وهذا هو العدل، قُلتُ لـرضوى عندما خطونا الخطوات الأولى مُغادرين باب المستشفى وهي تحمل تميم على ذراعيها وعمره يومان فقط: تميم كُله لك أشعُر بِخجل شخصي من حقيقة أنه سيحمل اسمي وحده دون اسمك في شهادة الميلاد!"
هذا غيضٌ من فيض الكتاب، وإن المقام لا يتسع لنذكر فيه كل جماليات النص في "رأيت رام الله"، وإنها لدعوةٌ للقراءة نتمنى أن تجد لها آذاناً! وعندها نكون قد حققنا مرادنا وتم المطلوب.
معلومات الكتاب:
الكتاب: رأيت رام الله
تأليف: مريد البرغوثي.
دار النشر: المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء)
الترقيم الدولي: 7-341-68-9953-978
نوعية الكتاب : ورقي223 قطع متوسط.