الموسيقا > عظماء الموسيقا
ديميتري شوستاكوفيتش ... الموسيقي الذي عاش منكسراً .. فأبدع
ديمتري شوستاكوفيتش
ديميتري شوستاكوفيتش (الاسم الكامل : ديميتري ديميتريفيتش شوستاكوفيتش)، مؤلف موسيقي روسي من مواليد سانت بطرسبورغ 12 أيلول 1906 – توفي في 9 آب 1975 في موسكو ، روسيا
اشتهر بسمفونياته الخمسة عشر، و كونشيرتو البيانو التي ألفها تحت ضغط المعايير الفنية و الاجتماعية التي فرضتها الحكومة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي السابق.
حياته المبكرة :
بدأ ديميتري بالتعلم على البيانو منذ كان عمره تسع سنوات على يد والدته، والد ديميتري كان مهندساً كيميائياً. أدخل الأب ابنه معهد بيتروغراد للموسيقى في عام 1919 و كان عمر ديميتري لا يتجاوز الثلاث عشرة عاماً، حيث تعلم أصول العزف على البيانو على يد ليونيد نيكولاييف حتى عام 1923، و التلحين على يد أليكسندر غلازونوف و ماكسيمليان ستينبيرغ حتى عام 1925.
في عام 1927 شارك ديميتري في مسابقة شوبان العالمية لعازفين البيانو في مدينة وارسو ببولندا حالياً، حيث نال درجة مشرفة في هذه المسابقة، و تابع ديميتري العمل على موهبته حيث كان هدفه هو أن يكمل أداء أعماله التي يؤلفها على البيانو.
حتى قبل نجاح ديميتري في مسابقة شوبان في وارسو، كان قد حقق نجاح أكبر كمؤلف بسمفونيته رقم 1 (1924-25)، حيث شهرت هذه السمفونية بسرعة منقطعة النظير في أنحاء العالم. السمفونية أظهرت أساسيات عديدة ارتكز عليها شوستاكوفيتش في مؤلفاته فظهر تأثير تشايكوفسكي واضحا في هذه السمفونية، إذ أن ديميتري تأثر كثيرا بتشايكوفسكي و مؤلفاته و هذا ما ظهر جلياً في سمفونياته الخاصة.
مع مرور السنوات تابع شوستاكوفيتش بكتابه مؤلفاته الموسيقية، و قد بدأ يدمج إحساسه أكثر فأكثر مع ما تأثر به من مؤلفات الموسيقيين الكلاسيكيين سواء السوفييت أو الأوروبيين على حد سواء.
و في هذه الفترة زار هنديمث و بيلا بارتوك روسيا لأداء أعمالهم الخاصة، وظهر شوستاكوفيتش، و قد قام بأداء مؤلفات موسيقية كان قد ألفها على أنماط موسيقية أوروبية أخرى حيث ظهر هذا واضحا في أوبرا "الأنف" الملحنة بين عامي 1927-28، المبنية على قصة نيكولاي غوغول، مما أبدى وعيا متزايدا في التأثر بالموسيقى الغربية، و هذا التأثر أثار عنصرية السلطات السوفييتية التي ترغب ببناء تراث سوفييتي خاص بالسوفييت وحدهم.
في عام 1928، عندما قام جوزيف ستالين بتدشين خطته الخمسية الأولى، ضرب بيد من حديد، و أراد بناء حضارة سوفييتية خاصة بالسوفييت، و رأى أن هنالك حاجة لموسيقى شعبية خاصة. حُظرت موسيقا الجاز، و بعد فترة قصيرة حُظرت كل الأنماط الموسيقية المشابهة لها أيضا. و كان تشايكوفسكي و مؤلفاته هي أساس الموسيقى الروسية، إذ كان لها صفة شبه رسمية و لا يجوز أن يتجاوز هذه المعايير أي مؤلف آخر.
هوجم ديميتري من قبل الصحافة السوفييتية، مما شكل ضغطاً أكبر عليه. و في عام 1937 ألف شوستاكوفيتش سمفونيته الخامسة، التي وصفتها الصحافة بالرد الأقوى على الانتقادات التي وجهت لشوستاكوفيتش. لقد حقق ديميتري من خلال سمفونيته هذه نجاحاً عارماً ليس على مستوى وطنه فقط، بل على مستوى العالم، و أصبح يعتبر كما لو أنه بطل قومي، إذ أن سمفونيته هذه كانت تفوق أي وصف في ما جسده بها عن كل ما يعيشه و يعيشه أبناء شعبه في ألحان لا يقاوم عذوبتها كل من سمعها.
و لعل أبرز ما يميز سمفونية شوستاكوفيتش الرابعة و الخامسة هو اقتباسه في بعض أجزاء السمفونية من سابقيه، غير مكتفيا بذلك، بل قام بتعديل تقنيات كثيرة في طريقة عزف الكثير من هذه الألحان، مضيفا عليها أكثر من ما أخذ منها، منتجاً سمفونية كما يقال عنها أنها ستبقى خالدة ما بقيت الموسيقى.
في عام 1937 أصبح ديميتري شوستاكوفيتش مدرساً للتلحين في معهد لينينغراد للموسيقى، و في أثناء الهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي، كان لا يزال ديميتري في لينينغراد، فقام بتأليف سمفونيته السابعة في المدينة المحاصرة من قبل الألمان في عام 1941، و قام بإنهاء سمفونيته في مدينة سامارا، حيث تم إجلاؤه هو و عائلته إليها.
نال هذا العمل شهرة سريعة، بسبب الظروف التي لحن بها، بالإضافة للجودة الموسيقية للموسيقى التي اعتاد الناس أن يسمعوها من شوستاكوفيتش.
في عام 1943 استقر ديميتري في موسكو و عمل كمدرس للتلحين في معهدها الموسيقي.
السلطات السوفييتية تسقط أسطورة شوستاكوفيتش :
أعمال شوستاكوفيتش التي كتبها خلال الأربعينات من القرن العشرين، تضمنت بعضا من أفضل مؤلفاته و أكثرها شهرة، كالسمفونية الثامنة لشوستاكوفيتش في 1943 و كونشيرتو الكمان الأول (1947-48).
الجدية التي سادت هذه المؤلفات، و كذلك الكآبة التي لفتها، كل هذه كانت من أسباب انخفاض شعبية شوستاكوفيتش للمرة الثانية.
مع بداية الحرب الباردة، ارتأت السلطات السوفييتية أن تفرض سيطرة أيدولوجية بشكل أكثر حزماً، فهذا ما شكل ضغطاً إضافياً على ديميتري شوستاكوفيتش، فقد كانت السلطات حينها تتدخل في كل شيء حتى في الفن، فشكل هذا تحديداً للمعايير الفنية لجميع الفنانيين، فألغت معاييرعدةً كان يعتمدها المؤلفون.
و في عام 1948 تمت مهاجمة أبرز موسيقيي الاتحاد السوفييتي بالنقد الشديد في مؤتمر و أسيئت سمعتهم.
تأثير شوستاكوفيتش أخذ بالتلاشي مع نهاية عمله كأستاذ في المعاهد الموسيقية في موسكو و لينينغراد.
حتى هذا الحد، لم يكن شوستاكوفيتش قد أخرج بعد من الحياة الموسيقية، و كان رباعيته الوترية الرابعة و الخامسة خير رد لكل من قام بنقد موسيقاه و نمطه الخاص في التأليف.
سمفونيته العاشرة التي لحنها في 1953 نفس العام الذي مات فيه ستالين، لوحت في وجه الشرطة الثقافية السوفييتية، و لاقت قبولاً عاما بسبب الجودة التي أغرقها شوستاكوفيتش في مؤلفه هذه مع تراكم خبرته الموسيقية مع تقدمه في السن و مرور الضغوط الكبيرة على الفنانين السوفييت.
و بعد وفاة بروكوفييف عام 1953، أصبح ديميتري رأس الموسيقى الروسية.
و عن علاقته بالسلطة، فقد كانت متذبذبة بين الاصطدام و التوافق، ففي سنة 1936 أبدى ستالين و هو يحضر عرض إحدى أوبرات شوستاكوفيتش استيائه واصفاً إياها بقعقعة و أنها لا تمت للفن بصلة، و من تم فرض حظر على العديد من أعمال شوستاكوفيتش، إلى درجة أن العديد من روائعه لم ترَ نور العرض و يعرفها الجمهور إلا في الستينات من القرن الماضي بعد وفاة ستالين، من جهة أخرى و بعد الضغوطات التي تعرض لها شوستاكوفيتش أصبح يتحاشى إبداء آراءه و مواقفه علناً و يستأثر بها لنفسه و من يقربه، كما أنه عمل على إخفاء الجانب السوداوي من أعماله و تم إضمارها حتى يتفادى المشاكل مع السلطة، وصل به الأمر حد تأليف مقطوعة مدح للسلطة سنة 1949 و الموسومة بـ ” أنشودة الغابات ” ، نالت استحساناً كبيراً، وتوج بعدها شوستاكوفيتش بجائزة ستالين.
و هكذا خلق شوستاكوفيتش معجزته الذاتية، المؤلف الموسيقي القادر على تجسيد ما عاشه من صعاب و ظلم و ضغوط في سمفونية.
على طول حياة ملؤها العطاء المتميز ألف شوستاكوفيتش عدداً مهماً من السيمفونيات الرائعة علاوة على تأليفه أيضا لمقطوعات الغناء الجماعي وكذا الرباعيات، والكونشرتو، والموسيقى التصويرية المصاحبة للأفلام و المسرحيات، و تبقى من أشد روائعه الموسيقية شهرة ” السيمفونية الثانية ” القوية و الهادئة في الآن نفسه.
كانت حياة ديميتري كئيبة على الرغم من شهرته الواسعة و محبيه الكثيرين، وقد يفقد شعبيته في وقت من الأوقات، لكنه يعود بشهرة أوسع و شعبية أعظم مما كان يملك. بؤسه جعله يفكر بالانتحار، لكنه لم يمت منتحراً، بل عانى في عام 1966 من أزمة قلبية و لم يشفَ منها بشكل تام وألف قبل وفاته سمفونيته الرابعة عشرة التي جسد بها معاناته الحياتية التي عاشها، و ألف الكثير من المعزوفات خلفيتها قائمة على العزف من أجل الموت.
الجوائز العالمية التي نالها ديميتري شوستاكوفيتش :
الأوسكار عام 1961.
العضوية الشرفية في أكاديمية سانتا سيسيليا في روما.
الدكتوراة الشرفية في الموسيقى من جامعة أوكسفورد في بريطانيا.
الميدالية الذهبية لجمعية الفيلهورمونيك الملكية.
الجوائز الوطنية التي نالها ديميتري شوستاكوفيتش :
بطل العمل الشعبي 1966
فنان الشعب السوفييتي عام 1954
فنان الشعب للاتحاد السوفييتي الفيدرالي الشعبي 1948
نظام لينين 1946 – 1956 – 1966
نظام ثورة أكتوبر 1971
جائز عمل الراية الحمراء 1940
جائزة لينين 1958
جائزة ستالين 1941 – 1942 – 1946 – 1950 – 1952
إلى أن مات في عام 1975 ، رغم كل هذه الجوائز و هذه الشهرة العالمية منقطعة النظير، ديميتري شوستاكوفيتش مات منكسراً.
نترككم الأن للاستماع إلى بعض من أجمل ما ألف
و ننتهي معكم بكونشيرتو البيانو F minor بعزفه هو:
المصادر: