البيولوجيا والتطوّر > التطور
كيف نشأت محاور أجسادنا؟ الجواب لدى هيدرا الماء العذب
هيدرا الماء العذب أو Fresh-water polyp Hydra هي أحد أعضاء شعبة "القراصيَّات Cnidaria" التي يعود عمرها إلى أكثر من 600 مليون سنة، ترجع شهرة هيدرا الماء العذب "هيدريَّة Hydra" إلى قدرتها غير المحدودة تقريباً على تجديد نفسها، الأمر الذي وضعها في رأس القائمة في أبحاث علم التجدد بوصفها أحد أهم نماذج الخلايا الجذعية الجزيئية.
وبحسب العلماء في "هايدلبرغ Heidelberg" و "فيينا Vienna"، فإن هذا الكائن بما يملكه من بساطة التركيب والتناظر الشعاعي (1) لجسمه، فإنه يمكن أن يكون دليلاً مساعداً جداً في فهم كيفية تطور محاور أجسامنا، وقد توصل العلماء إلى هذه النتيجة من خلال دراستهم تشكل الهيدرات الجديدة من الأم بعملية التكاثر اللاجنسي.
تتكاثر الهيدرا لاجنسياً عن طريق إنتاج الأفراد البالغة منها لبراعم تتشكل على جدران أجسامها، والتي ستنضج لاحقاً و تنفصل أو لا تنفصل لتشكل أفراداً جديدة.
ومن خلال دراستهم على المستوى الجزيئي، لاحظ علماء "هايدلبرغ Heidelberg" تشابهاً بين العمليات التي تجري ضمن المستوى الجزيئي لتشكُّل البراعم للهيدرا مع تلك العمليات التي تؤدي لتشكيل محاور الجسم في المراحل المبكرة لأجنة الفقاريات بما فيها الإنسان.
فجميعنا نشترك بميزات أساسية للمحاور الثلاثة التي تشكل أجسامنا: المحور الأمامي لخلفي الذي يحدد موقع الفم في المقدمة وفتحة الشرج في الخلف، المحور الظهري البطني الذي يفصل بين الجزء الأمامي والخلفي من أجسام الفقاريات، وأخيراً المحور اليميني اليساري: وهو مميز لأنه يجعل من أجسادنا نصفين متناظرين للوهلة الأولى، فالأطراف الخارجية متناظرة كانعكاس مرآة، ولكن هذا التناظر لا
ينطبق على الأعضاء الداخلية. ولكن، ما الذي يسبب ظهور هذا النموذج الأساسي لمخطط أجسام الحيوانات؟ وكيف يمكن لجميع الأحياء الأكثر تعقيداً من الهيدرا، بما فيهم الإنسان، أن تتطور عن ذلك النموذج؟ هذا كان أحد الأسئلة الأساسية المطروحة في البيولوجيا.
قام الباحثون في هايدلبرغ بدراسة عملية التكاثر لدى الهيدرا، واكتشفوا أن مسار الإشارات الجزيئية التي تقوم بتفعيل عملية تبرعم الهيدرا شديدة الشبه بالإشارات التي نملكها نحن وتمنحنا محاور أجسادنا! ولكن كيف؟
تبدأ اجسادنا باكتساب محاورها منذ المراحل المبكرة لانقسام الخلايا الجنينية، ففي مرحلة انقسام البيضة المخصبة تكون على شكل كرة غير محددة الملامح، إلى أن تظهر الإشارة الاولى التي تمنح الجنين محوره الأمامي الخلفي، ولا تلبث بعدها أن تظهر الإشارات الجزيئية المسؤولة عن المحورين الآخرين مما يعطي مجموعة الخلايا أبعادها ويحدد اتجاهات وأنماط نموها الذي سوف يستمر إلى أن يكتسب الجنين شكلاً محدداً.
لقد تم تحديد المورثات المسؤولة عن تلك الإشارات وتبين أننا نشترك في أغلب تسلسل المورثات وبالتالي أنظمة الإشارات نفسها مع جميع الفقاريات إضافة إلى بعض الحشرات والديدان فقد تم الحفاظ عليها تطورياً عبر الأنواع، وهذه الإشارات الجزيئية تلعب دوراً مهماً في النمو، تمايز الخلايا، وفي ظهور السرطان.
ولفهم ما هذه الإشارات يجب أن نتعرف على بروتينات WNT، وهي بروتينات مسؤولة عنها عائلة مورثات WNT وهي عائلة كبيرة تم إيجادها لدى كثير من الكائنات ابتداءاً من ديدان النيماتودا وانتهاء بالفقاريات ومنها الانسان، مروراُ بالفئران والذباب وغيرها.
تعمل بروتينات WNT كسُبُل لنقل الإشارات البيوكيميائية في الخلايا حيث ترتبط ببروتينات أُخرى تقع على أسطح الخلايا بارتباط يشبه القفل والمفتاح، وبمجرد حصول هذا الارتباط يتم تحفيز الخلية للقيام بسلسلة من عدة خطوات متعلقة بالنمو والتمايز تتضمن تفعيل مورثات معينة داخل الخلية مما يحفز انقسامها وتمايزها واكتسابها وظائفها المختلفة عن غيرها.
ظهر بنتيجة التحليل الجزيئي -الذي أجراه العلماء على بروتينات WNT لدى هيدرا الماء العذب- أنه وبرغم امتلاك الهيدرا لمحور واحد فقط لأجسامها، فهي تعتمد على نظام الإشارات الجزيئية العقدي نفسه الذي تمتلكه الكائنات ثلاثية المحاور، فبعد أن كان يُعتَقَد بأن الكائنات ذات التناظر الثنائي وحدها هي من تمتلك نظام الإشارات العِقدي Nodal signaling، فقد أظهر هذا التحليل أن النظام نفسه موجود لدى الهيدرا ويساهم في عملية التبرعم غير المتناظر التي تقوم بها لأفراد جديدة عن أجسادها.
يوضح البروفيسور Hiroshi Watanabe أحد المشاركين في هذه الدراسة أن المبدأ نفسه الذي تعتمده الهيدرا لتبرعم أفراد جديدة تستخدمه أيضاً الشعاب المرجانية، ولكن الفرق هو في أن براعم الهيدرا تنفصل لتكون أفراداً مستقلة عكس الشعاب المرجانية التي تبقى ملتصقة بالكائن البالغ لتشكل مستعمرة.
حيث يتم تنشيط مسار الإشارات العقدية عن طريق المكون الاساسي المسؤول عن المحور الأمامي-الخلفي، ويتحكم هذا المسار لاحقاً بتطوير محور الجسم اليميني-اليساري لدى الكائنات المتناظرة
كالفقاريات.
تفتح هذه الدراسة أمامنا أبواباً جديدة من مجالات البحث والمعرفة، فهي تعمق فهمنا لمنشأ الظواهر البيوكيميائية والجزيئية التي نمتلكها في أجسامنا، عن طريق فهمنا لمنشأ تلك الظواهر التطوري واشتراكنا بها مع كثير من الكائنات التي قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة جداً عنا من الناحية التطورية، ولكن على المستوى الوراثي والجزيئي فنحن نشترك معها بأكثر مما كنا نعتقد.
المصادر: