الطبيعة والعلوم البيئية > عجائب الأحياء
الماموث ... القصة الكاملة
أعلم أنّ الكثيرين منكم يحبونني دون أن يعرفوا عني الكثير، واليوم أحكي لكم قصتي –الحزينة- لكن، المشوقة والمفيدة في الوقت ذاته. حسنٌ ... أنا خوخة ابنة ماني Manny وإلي Ellie حيوانا الماموث الصوفيان من فيلم عصر الجليد Ice Age.
عندما أحاول سرد قصتي فلا يسعني إلا أن أتذكر الصورة التي لن تغيب عن ذهني أبداً؛ صورة جثث أصدقائي والتي رغم ما تحمله من مأساة فإنها حملت لكم بعضاً من حمضي النووي الذي مكنكم من معرفة أقربائي ومكاني فيما تسمونها شجرة الحياة. نعم أنا من الثدييات، ورتبة الفيليات Proboscidea ولي أقرباء كثر كماموث الجنوب، ماموث السهوب، الماموث الكولومبي وأنا الماموث الصوفي.
ما يميزني عن بقية الأنواع كماموثة صوفية ليس شهرتي في الفيلم الذي تعرفون، وإنما اكتشاف البشر للتسلسل الكامل لحمضي النووي. قرأت مرةً في مكان ما، أنني أكثر قرباً إلى الفيلة الآسيوية منها إلى الأفريقية؛ ومع أنني لا أعرف أياً من الفيلين حقيقةً، لكنني أتمنى أن أكون قد شـُـبّهت لحيوان ذو "كاريزما" على الأقل (1).
قرأت أيضاً أن أذن ما يسمى بالفيل تبلغ 180 سم طولاً لكنني لطالما أحببت أذناي القصيرتان (30 سم) فهما أفضل في الطقس البارد كما أنني لطالما اعتقدت أن سنامي أحد مصادر جاذبيتي ناهيكم عن تخزين الدهون التي ساعدتني عندما لم يكن الطعام متوافراً (4).
في أيام الرغد كننا نعيش في السهول الممتدة من مستوى سطح البحر حتى الجبال شديدة الارتفاع في هضبة كولورادو وفي مناطق ضفاف الأنهار والسهوب وعلى الكثبان الرملية والعشبية وفي التندرا؛ أي أننا كنّا في كل مكان تقريباً. لم أكن أرَ فرقاً كبيراً بين قطيعي والقطعان الأخرى في المناطق البعيدة لكنكم –البشر- عرفتم مواطننا لكون المناطق في نظركم تتمتع ببصمة مميزة تبعاً لنوع مائها وتربتها ونباتاتها التي أثرت نظائر العناصر فيها في عظامنا فيما بعد.
حلمت مرةً في طفولتي أن فتاةً صغيرة كانت ترسمني بشغف فقد تنبأ أبناء جنسها بشكلي من معرفة توضع العضلات والأوتار الرابطة والأعصاب من دراسة الهيكل العظمي لأقاربي. ما لم يعجبني أنها صورتني سمينة على خلاف الواقع ولا ألومها فالدهون لا تترك انطباعاً على الهياكل العظمية التي وجدوها. عموماً فأبناء عمومتي الكولومبيون هم الأضخم بوزن 5-10 آلاف كغ.
فطمتني ماما في السادسة، لكن أصدقاء لي فطموا بأعمار أكبر في سنوات لاحقة لقساوة ظروف القطب. بعد الفطام، بدأتُ ألاحظ اختلافاً بيني وبين ابن الجيران؛ وهو ماموث آخر صديق لي، فحوضي أكبر لكن جمجمته وأطرافه أكبر كما أن أنيابه أثقل وأطول (1).
كان شعري ينسدل بطول يصل إلى المتر غنياً بالدهون المفرزة من الجلد والتي جعلته عازلاً للماء (4). ذات يوم فوجئت بعائلتي تسبح في النهر القريب. لقد كانوا ماهرين في ذلك ولم أكن أعلم آن ذاك أهمية أن أتقن هذه المهارة (1).
كنت ذات لون بني فاتح أقرب إلى البرتقالي بينما كان ابن الجيران داكناً وكانت ماما تخبرني بأنها المورثات، لكنني ما استطعت فك طلاسم ما قالته (4).
صحيح أننا كنـّـا نأكل بنهم حتى النباتات المتحملة للجفاف إلا أننا حفظنا المواقع المعشوشبة المفتوحة وفتحنا الطريق أمام بقية الحيوانات للوصول لمصادر المياه. كان الجميع يلقبون والدي بالجرافة على الدوام وما كان لي إلا أن أفخر بذلك (1)، وفي الشتاء كان بابا يستعمل نابيه القويين لاكتساح الثلوج والوصول إلى الأعشاب والشجيرات تماماً كما فعل وحيد القرن الذي عاش في عصرنا (4).
عانى بابا من التهاب المفاصل في الـ 60 من عمره كما عانت ماما من تشوهات في الفقرات والرسغ والأسنان. مع الأسف لم تكن تلك أكبر مصائبنا بل أصغرها.
لطالما حذرتني ماما من "دييغو" النمر سيفي الناب sabertooth. ربما عرفتموه كصديق لنا في الفيلم، لكن أبناء جنسه في الواقع ما برحوا يهاجموننا نحن الصغار لعلمهم ألّا حظّ لهم في مواجهة الكبار. في الواقع فإن الأسد الأمريكي والدب قصير الوجه كانوا يفعلون الشيء ذاته (1).
عشنا وقتاً طويلاً قبل الانقراض في السهول الروسية الشمالية قرب هامش الغطاء الجليدي أي جنوب غرب سيبيريا لألف سنة تقريباً، بعيداً عن الأماكن المستوطنة من قبل البشر. في ذلك الحين تركنا أوروبا ومعظم آسيا واتجهنا إلى ما لم نكن نعلم بأنه حتفنا المحتوم بسبب ما عانيناه من تشتت وفرقة فيما بيننا (3).
أذكر تماماً كيف كانت الحرارة تتذبذب في عصر البليستوسين Pleistocene مؤديةً إلى تقدم الثلوج إلى السهول الشمالية تارةً وانحسارها تارةً أخرى لكنها لم تكن مشكلة فقد اعتدنا التأقلم مع ذلك. لم يدم ذلك طويلاً، فقد جاء العصر الجليدي الأخير Glaciation الذي كان الأقسى على الإطلاق.
تقلصت السهول المعشوشبة، وتضورت جوعاً لليال عديدة. نظرة اليأس في عيني بابا –القوي- كانت أشد ما أحزنني.
لم تكن الظروف قاسية علينا وحسب بل على الإنسان أيضاً مما دفعه لمهاجمتنا بشراسة .... توفيت ماما والعديد من أقاربي ... فقد بابا الأمل بإنجاب أخ لي. أما أنا فقد أيقنت أننا وصلنا إلى النقطة التي لن نكون قادرين بعدها على استرداد أعدادنا (4).
طمع الإنسان لم يعرف الحدود يوماً. نافسونا في أراضينا واصطادونا ليأكلونا وليصنعوا من أنيابنا وعظامنا أثاثاً وأدوات. حتى بعد موتنا بآلاف السنين نبشوا قبورنا التي تكشفت بانحسار الجليد الناتج عن الاحتباس الحراري وباعوا رفاتنا وبقايانا (2).
أكاد أجزم أن التغير المناخي الذي شهدناه لم يكن لينال منـّا، كما لم يكن البشر ليبيدونا جميعاً ... لكن السببين معاً كانا أكبر من أن نستطيع احتماله.
توقف بابا عن قصّ روايات الأطفال عليّ قبل النوم. بات يحدثني عن أقاربنا في أمريكا الذين واجهوا بشر حضارة الكلوفيس Clovis أواخر العصر الجليدي، وكيف أنهم افرطوا في صيد الماموث وحملوا إليه وحيواناتهم أمراضاً وفيروسات ما كان للماموث سابقُ عهدٍ بها قط. ومع الشتاء البارد الذي قلص الغذاء المتوفر عانى أبناء جلدتنا الأمرّين.
كان يخبرني أن القوة التي نمتلكها بفضل حجمنا الضخم كانت وبالاً علينا إذ كنــّا النوع الأشد تأثراً بتقلص الموائل لحاجتنا إلى مساحات شاسعة للعيش، فقد امتلك أصدقائنا من وحيدي القرن وحيوانات الكسلان فرصاً أكبر في النجاة قبل أن ينقرضوا (5).
جاب قريبي -الماموث الكولومبي- أمريكا الشمالية من كندا حتى المكسيك ولم يزر الجنوبية قط كما فضّل التواجد في بلاد الإنكليز في "جزر القنال" التي لم يكن يعرف أنها ستودي به إلى حتفه فقد ارتفعت مناسيب المياه في الجزر وقلت الموارد بما يكفي فقط لدعم الماموث صغير الحجم الأمر الذي أدى إلى تطور ماموث قزم عنه.
لطالما شعرت أن الطبيعة حاقدة علينا لسبب لا أعرفه، إذ اذكر مرةً أن ماما أخبرتني كيف قضى ابن جيراننا في أحد فيضانات تكساس حيث حاول والداه إبقاءه فوق المياه دون جدوى، ورغم أنني فتاة، لا أزال غير موافقة على عاداتنا في منح الأولوية للبنات على حساب الأولاد عندما يتعلق الأمر بالإنقاذ من قبل الكبار (1).
لم أكن أتعافى من مصيبةٍ حتى أقع في أخرى إلى أن تهت عن والدي. كان ذلك الحدث الجلل الذي لا أعرف حتى اليوم كيف استطعت تجاوزه. هاربةً من الانهيارات الثلجية ومن البشر وجدت نفسي في جزيرة Wrangel في القطب الشمالي عام 1650 قبل الميلاد أي منذ 4000 سنة تقريباً كنت برفقة 1000 من الماموث. ولكثرة ما مررت به، لم أكن أصدق أننا لا زلنا على قيد الحياة. ما لم أعلمه حينها أننا كنّا الناجين الوحيدين من جنس الماموث (2).
كان العالم يشهد آنذاك الانقراض الجماعي السادس ، ولطالما كان زوالنا من الوجود أمراً معقداً لم أفهمه وأنا التي عاصرته (3).
المشهد الذي لم يغب عني يوماً كان مشية بابا وهو يطأ الجليد بهيبة. أعتقد أنكم تتفقون معي من أن طفلاً صغيراً في داخل كلٍ منّا يرغب برؤية هذا المشهد. لذلك عزمت على إعادته إلى الحياة ... إلى حياتكم أنتم الذين تقرؤون مذكراتي بعد 4000 سنة. مؤكدٌ لن يعود بابا أو ماما بشخصيهما، لكن ماموثاً صوفياً على الأقل هو من رغبت بإعادته ... وفكرت ... ما هو سبيل الخلود (2).
لطالما سمعت عن مستحاثات الديناصورات التي تمعدنت بشكل يستحيل معه استرجاع مادتها الوراثية (4) وفكرت دون تردد وبعد أن عرفت حتمية الموت بفكرة. توجهت إلى أبرد بقاع القطب الشمالي .... علمت أن هذه المجمدة الطبيعية هي الأمل الوحيد المتبقي .... أغلقت مذكراتي ورقدت بسلام.
مرت السنوات بسرعة حتى عثر عليّ بشر آخرون ... لم يكونوا كالبشر الذين قتلوا ماما ... حملوني برفق كمن يدلل قطعة ثمينة من حجر كريم. دمائي وأنيابي، شعري ومحتويات معدتي كلها كانت محفوظة بعناية. وسرعان ما وظـّـفوا كل ذلك لحل اللغز المعقّد المتمثل في الجينوم الخاص بي والمكون من ربط أكثر من 5 بلايين زوج من القواعد النيكلوتيدية (2).
باتوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمي ... ها قد انتهت مأساتي ... فهل سأعود من جديد؟؟
المصادر:
(1) هنا
(2) هنا
(3) هنا
(4) هنا
(5) هنا
مصدر الصورة:
Blue Sky Studios