الفنون البصرية > فن وتراث

قبح الجريمة، والإبداع في استنكارها في لوحة!

لوحتُنا تحمل اسمَ " ايفان الرّهيب و ابنه "

Ivan the terrible and his son

_ 1885_

هذا العملُ المشهورُ ينتمي لـ الفنّانِ الرُّوسي Ilya Repin (1844 – 1930 )، أشهرُ فنّاني القرنِ التاسعَ عشر، رُسِم في عام 1885، ولكنّ ريبين بدأ بالتّفكير بهِ باكِراً في سَنَة 1881، السّنة ذاتُها الّتي حصلتْ فيها حادثةُ الاغتِيالِ الدّامية الّتي استهدفتْ آليكساندر الثّاني، ممّا جعل ريبين يسترجعُ في ذاكِرتِه سلسلةَ الأحداثِ العَنيفة والمتنوِّعة من التّاريخِ الرّوسي، فكانتْ جريمةُ إيفان المُلقّبْ "بالرَّهيبْ" بابنه، الحجّةَ المُلائمةَ للتّعبيرِ عن رفْضِه كفنّانٍ لكافّةِ أشكالِ العُنْف وإراقةِ الدّماء.

استخدم ريبين في لوحتِه مُساعدةَ اثنينِ من أصدقائِه كنماذجَ ليَرسُمها ( موديل )، أحدُهما مثَّلَ دورَ الأبْ وكان هذا صديقَه الفنّان G.G.Miasoedov والثّاني مثّلَ دورَ الابن وكانَ الكاتِبَ Vsevolod Garshin .

اللّوحةُ النهائيّةُ عُرِضتْ في العرضِ الثّالث عشرْ من عروضِ جمعيّةِ المَعارضِ الجّوالة، حيثُ أُثنِىَ عليها من قِبل مَنْ يُسَمّون أنفسهَم " التَّقدّميّين" وتعرّضتْ للنّقدِ اللّاذِعِ من قِبل " المُحافِظين".

إيفان كرامسكوي ( الفنّان الرّوسي الجميل و بطلُ مقالِنا السّابق ) – وأُستاذُ ريبين - وصفَ اللّوحةَ بتصريحٍ عاطفيٍّ جدّاً :

" ما هُوَ مُعبّرٌ و مذهلٌ بشكلٍ حتْميّ هو تصويرُ شخصيّةِ المُجرمِ المَفْجوعَة ! ملامِح وجهِهِ المَحسوسة ، إنّها حالةٌ يصعب تجسيدُها للغاية ، وقد أُنجِزَتْ من خلالِ المعنى الذي قدّمهُ مُكوِّنانِ اثنان : الأبْ ، وقد ضربَ ابنهُ على صدْغِهِ بعصا ! هيَ لحظةٌ واحدةٌ ويبدأُ بالبُكاءِ مذْعُوراً ، مُندفعاً إلى ابنهِ مُمسكاً بهِ ! جاثماً على الأرضِ يرفعُهُ فوق رُكبتِيه ، ويضغطُ بشدّةٍ بإحدى يديْهِ على جُرحِ الرّأسِ ( حيثُ الدّم يتدفّقُ بغزارةٍ عبرَ الفراغاتِ بينَ أصابِعه ) ، ويدهُ الأُخرى على خصْرِهِ ضاغطاً إيَّاهُ إلى صدرِه ، يُقبِّلُ بنَهَمٍ رأسَ الابنِ المسكين ، ويصرخُ من الذُّعْرِ عجْزاً ، وبينما هو يرمِي نفسَه على ابنه ، يبكي على رأسِهِ و يُلطّخُ النّصفَ العلويَّ من وجهه بالدّماء ، إنّها لمسةٌ "شكسبيريّةٌ" تراجيديّةٌ هازِلة ومأساويّة !حيوانٌ يجأرُ من الخَوْف .

والابن المسكينُ العزيز ، يموتُ بسلامٍ ، بعينيهِ الجميلتين وفمِهِ الرّقيق الجذّاب ، نَفَسُه الثّقيل ... ويديه العاجِزَتين ."

من الغريبِ في هذه اللّوحةِ أنَّكَ بالرّغمِ من بُقعِ الدّماءِ المُنتشرةِ هنا وهناك وشَناعةِ الجريمةِ الّتي تسْرِقُ عين النّاظر، لا تستطيعُ إلاّ أنْ تُذهل بتعابير وجهِ الأبِ "القاتل" لتَشْعر بها وكأنّها تَنطِق، ولا تقدرُ أنْ تَغفل لحظةً عن روعةِ تصويرِ القصر المُزخرف وتشعرَ بالسّجاد المُزركش "الكازاخستاني" بانثناءَاتهِ يُلامسُ قَدمَيك !

أصبحَ من المُغري قليلاً وخاصّةً لذَوِي الشّغفِ الفنّي والتّاريخي أنْ نجولَ قليلاً في حياةِ هذا الأبِ "الرّهيب" ونَنبش قليلاً بسيرةِ هذا القيصرِ الرّوسي السّفاح القديم !

في الوقت الذي بدأ سُلوك إيفان يُصبح غريبَ الأطوار ، وتحوّلتْ نَوباتُ الغضبِ لدَيه لـ فتراتٍ من ممارسة الزّهد الدينيّ ، علمنا أنّه في عام 1581، وخلال شجارٍ عنيف قتل إيفان بالخطأ ابنَه الأكبرْ، الوريثَ الوحيد المُختار والمُجهّز لاستلامِ العرْش .

حياةُ إيفان العاطفية لم تكنْ طبيعيّةً على الإطلاق ، كان يُبدِّل الزّوجة تِلوَ الأُخرى، وأحياناً يُرسل بفظاظةٍ كُلَّاً من زوجاتِه بعدَ زواجه بها بفترةٍ قصيرةٍ إلى دَير الرّهبنة .

ليس من الواضحِ بشكلٍ دقيقٍ عددُ المرّاتِ الّتي تزوّج بها، ولكنْ أغلبُ المؤرّخين يتّفقونَ على أنّه قد تزوّجَ لسبعِ مرّاتٍ على الأقلّ .

في أواخرِ حياتِه كان شخصاً مَقيتاً بشكلٍ كبير و تصرّفاتُه لم تكنْ متوقّعةً أو مَوزونةً، أمّا في فترةِ حُكمه فكان من الصّعب أن تَشهدَ عائلةً من العائلاتِ النّبيلةِ لمْ تتعرّض لـ غطرستِه وبطْشه وكانت أميالٌ من الأراضي الخصبة تتحوّلُ لبُقعٍ قاحلةٍ ومهجورة في فترةِ حُكم العسكَرِ تِلك .

إيفان لم يصبحْ رهيباً أو سفّاحاً على حينِ غَرّةٍ وبشكلٍ مُفاجئ بل كان ذلكَ نتيجةً تراكُميّةً لعديدٍ من الأشياء أهمّها طفولته، فوالدُه ماتَ عندما كان فقطْ في الثّالثةِ من عُمرهِ و تمّ التّصريحُ حينها على تعيين إيفان الأميرَ الأعظمَ لِموسكو .

في بدايةِ الأمرِ لعبتْ والدتُه Yelena Glinskaya دور الوصيّةِ على العرشِ، و لكنّها ماتتْ عندما وصل إيفان لعُمرِ الثّامنة، وشهدَ عندها استبدالَ والدتِه بمجموعةٍ من النُّبلاءِ الّلذين قاتَلوا بعنفٍ طمعاً بالنّفوذِ والسُّلطة .

عُومِل إيفان من قِبلهم بالاحترامِ فقطْ علناً، أمّا سِرّاً فكان يُعاملُ بالذّل والإهمال .

كبرَ وحيداً وغالباً ما كان يتعرّضُ للذُّل والإهانة من قِبل الأوصياءِ على العرْش وعليه ... الشّتم ، العُنف ، الجريمة ... كلّها كانتْ أمراً عاديّاً ومُباحاً في القصر، ومن المُعتقدْ أنّ طُفولتَهُ البائسةَ والمأساويّةَ تُفسِّر بشكلٍ كبيرٍ بُغضَه وكُرههُ للنُّبلاء، ولاحقاً الإرهابَ الّذي مارسَه ضدّهُم .

وفي النّهاية نرى أنّ المَسْلك الفنيّ الّذي اتّخذَهُ فنّانُنا ريبين - مُبدعُ هذا العملِ الفنيّ التّاريخي العظيم – في عالمِ الفنّ، كان شبيهاً وقريباً من مَسلك وموقِفِ Leo Tolstoy الشّهيرِ في عالم الأَدبْ، في حينِ كان من الرُّواد الّذين ساهموا بدورٍ كبيرٍ وأساسيّ بإعادةِ الفنّ الرّوسي إلى الاتّجاهِ السّائدِ للثّقافةِ الأُوروبيَّة .

المصادر :

هنا

هنا

هنا