الفنون البصرية > فن وتراث
الخط هندسة روحيّة، ظهرت بآلة جسمانيّة
مرّ الخط بعدّة مراحل قبل أن يصل إلى شكله الحَرْفي الموجود حاليّاً، فقد بدأ الإنسان باستخدام الصور والرموز للتعبير عن أفكاره ومشاعره وتفاصيل حياته، لكن مع تطوّره الفكري ودخوله للمدنيّة لجأ إلى طرق تعبير أكثر تعقيداً فظهر الخط بشكل حروف هجائيّة، سنتتبّع في هذا المقال مسيرة تطوّر خطّنا العربي
يعود أصل الخط العربي إلى الخط المصري القديم الذي كان أقرب إلى الرموز والصور منها إلى الحروف، تحوّل إلى الشكل الحَرْفي بفضل الفينيقيّين الذين استفادوا من بعض الحروف المصريّة وأضافوا عليها حروفاً أخرى فكوّنوا كتابة سهلة من اثنين وعشرين حرفاً استخدموها للمراسلات التجاريّة ونقلوها مع تجارتهم إلى آسيا وأوروبا، ممّا أدى إلى ظهور خطوط جديدة متفرّعة منها مثل اليوناني والآرامي.....
والآرامي بدوره تفرّع إلى عدة خطوط منها:
• السرياني الذي تولّد منه الخط العربي بقسمه الكوفي
• النبطي1 الذي تولّد منه الخط العربي بقسمه الحجازي النسخي2
المصري القديم ← الفينيقي ← الآرامي ← النبطي ← العربي النسخي
المصري القديم ← الفينيقي ← السرياني ← العربي الكوفي
وقد أظهرت النقوش المكتشفة في سوريّا القرابة بين الخط العربي وأصله النبطي، منها النقشُ المكتشف في صحراءِ النمارة شرقي جبل العرب والذي يُعتقد أنّه شاهدة قبر امرؤ القيس
هذا الرأي الذي اعتمدهُ المستشرقون حول أصل الخطِّ العربي، أما المؤرّخون العرب فقد اختلفوا معهم ووضعوا له سلسلة أخرى تبدأ من المصري القديم ثم الفينيقي ثم المسند اليمني. من المسند تولّد النبطي ومنهُ ظهر الحجازي النسخي ومنهُ ظهر الكوفي، أي أن المؤرّخين العرب لم يعتبروا الخط الكوفي متفرّع من السرياني إنّما ناتج عن هندسة وتنظيم الخط النسخي.
المصري القديم ← الفينيقي ← المسند ← النبطي ← العربي النسخي ← العربي الكوفي
***
تعامل العرب القدماء مع الحروف بالفطرة دون تنقيطٍ أو تشكيل أو قواعد نحويّة، حتّى أنّهم اعتبروها تشويهاً للكتابة، ولكن بعد ظهور الإسلام وزيادة اختلاط العرب بالأعاجم ظهرت الحاجة لوجود قواعد للخط العربي تحافظ عليه وتمنع تشوّهه، فكان أبو الأسود الدؤلي أول من وضع أسس علم النحو وشكّل الحروف بعلامات بسيطة ونقط ملوّنة، وقام تلميذاه يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم بتنقيطها
استمر استخدام طريقة أبو الأسود الدؤلي حتى العصر العباسي، حيث حلّ الخليل بن أحمد الفراهيدي مشكلة التداخل بين نقط التشكيل ونقط الحروف بوضع حركات التشكيل بشكلها المعروف حاليّاً
تابع الخطّ العربي تطوّره منذ بداية العصر الأموي حتى نهايات العصر العبّاسي، واستمرّ في رحلته مع وصول العرب للبلدان المختلفة واحتكاكهم بالأمم الأخرى فظهرت أنواع جديدة منه متأثرة بأهل البلاد الأصليين كالخط الفارسي والأندلسي والديواني "نسبة إلى الديوان العثماني السلطاني".
استطاع الحرف العربي أن ينتشر في مناطق مختلفة من العالم ويجد قبولاً وترحيباً فهو لم يكن حكراً على اللغة العربية، بل استخدمته لغات أخرى هي الهندية والفارسيّة والتركيّة والإفريقيّة وبعضها ما زال يستخدمه حتى وقتنا الحالي.
ولم يتوقف استخدامه على الأغراض الكتابيّة الاعتياديّة لما يتمتّع به من جماليّة وليونة وقابليّة للتعديل والتشكّل بأي شكل هندسي دون أن يطرأ على جوهرهِ أي تغيير، وتقبّله لمختلف الزخارف الهندسيّة والنباتيّة، إضافة إلى إمكانية توصيل الحروف ببعضها، فأصبح عنصراً فنيّاً مناسباً لتشكيل لوحاتٍ متكاملٍة كانت وما تزال تزيّن الجدران والقِباب والأقمشة والكتب والأواني الزجاجيّة والنحاسيّة وغيرها من الأشياء بمختلف الأساليب الفنيّة التقليديّة والحديثة.
انتظرونا في الجزءِ الثاني من هذا المقال لنتابع رحلتنا مع جماليّات الخط العربي وأنواعه.
ـــــــــــــــ
مُحلق النص:
1: نسبة إلى الأنباط وهم عرب سكنوا شمال الجزيرة العربية، عاصمتهم البتراء
2: خط عربي قديم، يختلف عن خط النسخ المعروف حاليّاً ولكنه يعتبر أساساً له
المصادر:
تاريخ الخط العربي وآدابه - محمد طاهر بن عبد القادر الكردي
الخط والكتبة في الحضارة العربيّة - يحيى وهيب الجبوري
تصميم الغلاف للفنان منير الشعراني