التاريخ وعلم الآثار > التاريخ
كتابة التاريخ فن أدبي أم دراسة علمية؟
هل يواجه المؤرخون معضلة الاختيار بين التحليل الأكاديمي والسرد الشعبي، أم ينبغي أن يتقنوا كلا المهارتين؟ سؤال تطرحه سوزانا ليبسكومب.
"هنري الثامن وكاثرين من أراغون أمام السفراء البابويين في بلكفريرس في 1529م"، فرانك أوين سالزبوري، 1910م
أي نوع من التاريخ يجب على المؤرخين أن يكتبوا اليوم، لا سيما إن كانوا يكتبون لجمهور عميق المعرفة والتفكير، مثل قراء مجلة "التاريخ اليوم"؟
يجري البحث مؤخرا لكتابة كتاب جديد حول اللغز التاريخي المحير - والوثيقة الخطيرة سياسياً - والتي هي وصية هنري الثامن الأخيرة. وهي وثيقة يوجد حولها خلاف كبير. وقد كثرت الأسئلة منذ إنشائها على زمن التوقيع عليها وما إذا كانت حقا موقعة كما ينبغي: فهل التوقيع باستخدام "الطابع الجاف" لهنري الثامن - وهو الجهاز الذي صنع ليحاكي توقيع الملك حتى يتسنى لكاتبه استخدامه والذي يعد نوعا من التزوير الرسمي - يعتبر توقيعاً بحق؟ وإذا لم يكن ذلك ممكناً، فهل يمكن إبطال وصية الملك، والتي استبعدت ميراث الحكم عن سلالة ستيوارت، لصالح ماري ملكة الاسكتلنديين؟ وهل تم العبث بالوصية عندما كان هنري يحتضر أو بعد أن أصبح جثةً هامدة؟ كما أن ظروف إنشائها محط خلاف. كما كتب المؤرخون روايات متضاربة عن الأشهر الأخيرة من حياة هنري الثامن: فيقول أحد المؤرخين إن "الثعلب العجوز" - كما كان يلقب – الذي لا يقهر كان بكامل قوته مسيطراً حتى النهاية، منفذاً بشكل حاذق عدالته وانتقامه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. بينما يقول آخر أن الملك المتهاوي المقهور بالألم كان كدمية مثيرة للشفقة بيد الفصائل المتناحرة التي سعى كل منها للتخلص من أعدائه وحصر ما استطاع من السلطة في يده.
الكتابة عن هذه السلسلة من الأحداث المثيرة للجدل مثير حقاً. إذ يمكن للمؤرخ أن يطلع بنفسه على ما اختلف عليه الجميع، وأن يذهب مباشرة إلى المصادر الأصلية نفسها لمحاولة حل اللغز. هذا هو التشويق عند البحث في التاريخ الذي يتحدث عنه ج. م. تريفيليان فيقول:
"ما يجبر المؤرخ على 'الازدراء بالمسرات والعيش بشقاء' هو الحماس النابع من فضوله الخاص لمعرفة حقيقة ما حدث منذ فترة طويلة في أرض الغموض التي نسميها الماضي. فبالنسبة له يصبح التحديق في تلك المرآة السحرية لرؤية شخصيات جديدة فيها كل يوم هو الرغبة الشديدة التي تستهلكه وترضيه في نفس الوقت كل حياته، والتي تحمله كل صباح كعاشق، إلى المكتبة وغرفة الوثائق العتيقة."
ولكن أيجب على المؤرخ أن ينقل للقارئ كل تفاصيل هذه العملية؟ هل يجب أن تكون صفحاته مكتظة بالتآريخ والنقاشات، داعياً القارئ لتتبع الموضوع معه للخروج سويا من تلك المتاهة، أم ينبغي أن يكون عمله كأقدام البجعة، متدثراً بصفاء انسلالها عبر المياه؟
وتتحدث الكاتبة فتقول: "لقد قرأت للتو كتاب دان جونز الجديد ‘التاج المجوف: حروب الورود وصعود سلالة التودور’، وأدهشني الوصف الحي فيه، وترتيب المشهد المؤثر، وحس التشويق، والرسم البارع للشخصيات بالإضافة لمهارته الأدبية المحسودة. فكأن هذا العمل التاريخي رواية".
و تكمل الكاتبة: "أعلم أن الكثير من المواد كانت محط خلاف مؤرخي العصور الوسطى لعقود من الزمن: متى بدأت حروب الورود ومتى انتهت؟ وكم من اللوم يقع على وليام دي لا بول (إيرل سوفولك ودوقها لاحقا)، في فشل حكم الرضيع هنري السادس؟ هل كان ريتشارد الثالث غاصبا للحكم و هل قتل الأمراء في البرج؟
ليس الأمر أن كتاب جونز ليس عملاً علمياً (فهو محصن بالبحوث والمراجع والأسباب التي تشرح تفسيراته والتي تجدها في التعليقات الختامية، لأولئك الذين يرغبون في متابعتها) ولكنه يظهر كعمل روائي. وبذلك، يتبع جونز مساراً مألوفاً، مسارا يحمل آثار أقدام مؤرخي القرن ال19 و أوائل ال20 الأدبيين الاكثر مبيعا، مثل تريفيليان و ت. ب. ماكولي، الذي كتب في عام 1828م أن ‘المؤرخ العظيم حقا يستطيع استعادة تلك الأدوات التي كيفها الروائي’. ولكن العديد من المؤرخين اليوم لا يسيرون في هذا الطريق. أتساءل عما إذا كان انعدام الثقة في قبول التاريخ السردي يفسر تحول الكثير من المؤرخين لكتابة الروايات."
ثم تنهي الكاتبة فتقول: "يبدو لي أن على المؤرخ اليوم أن يتخذ قراراً. فهل ينبغي عليه أن يهدف إلى أن يكون شبيه هرقل بوارو راسماً الخطوات التي أوصلته إلى القاتل. أو شهرزاد، الحكواتية الموهوبة، مقدماً أفضل ما يستطيعه في فك رموز الأدلة ليقدم قصة معقولة ومقنعة؟ أم هل من الممكن أن يكون الاثنين على حد سواء؟".
وتكشف الباحثة أخيراً: " الشخصية التي تحدثنا عنها والتي تكون بطلة كثير من روايات أغاثا كريستي، هو محققٌ بلجيكيٌ يكشف الجرائم"
المصدر: