منوعات علمية > العلم الزائف
التغطيس Dowsing حقيقةٌ أم زيف؟!
التغطيس، ظاهرةٌ من المؤكد أنكم قد شاهدتموها يوماً على شاشة التلفاز؛ شخصٌ ضائعٌ في الصحراء، بلا ماءٍ ولا طعام، عصاً على شكل حرف Y يُمسكها من طرفيها الخلفيين ويترك لها زمامَ أمره فيتحرك هائماً دون وجهةٍ محددة إلى أن يشعر بأنَ هذه العصا تجذبه؛ عندها يدرك أنه قد وجد بئر ماء فيبدأ بالحفر!
هذا في الأفلام، لكن على أرض الواقع، ما هي هذه الظاهرة وهل لها تعليلاتٌ علمية؟ وهل هي حقيقيةٌ فعلاً؟
التغطيس أو Dowsing هي عمليةٌ غير مفسرةٍ حتى الآن، تقول بالقدرة على الكشف عن الماء أو النفط أو المجوهرات وربما كرات الغولف، وحتى الأشخاص وذلك بالإمساك بخشبةٍ كالتي تحدثنا عنها في المقدمة أو قضيبين معدنيين على شكل حرف L وعندما تشعر بقوة شدٍ في الخشبة أو يتصالب القضيبان فاعلم عندها أنك قد عثرت على ضالتك! وبالإمكان أيضاً عن طريق التغطيس، العثور على الأشخاص الضائعين وذلك بأن تمسك نواساً (بندول) وتحركه فوق خريطةٍ فإذا تأرجح (أو أوقف تأرجحه) فوق نقطةٍ ما على الخريطة، فإنك ستجد الشخص الضائع في هذا المكان!
إذاً، ورغم غرابة القدرات التي يقوم بها التغطيس، هل يمكن للتغطيسيين (سواءً الذين يمارسون التغطيس أو يصدقون به) أن يقدموا تفسيراتٍ مقنعةً له؟!
لربما تعود أكثر الأسباب إقناعاً لتفسير انتشار هذه الظاهرة أو اتساع مؤيَديها حتى في عصرنا هذا هو قِدَم ممارسة هذه الطريقة حيث تذكر الكتب التي تدعم التغطيس أنَ هذا الفن قد مُورِس على مدى فترةٍ طويلةٍ من الزمن وأثبت نجاحاً واضحاً، فكتابDe Re Metallica الذي أشار إلى التغطيس كطريقةٍ للبحث عن المعادن ويعتمده كثير من المغطسين كمرجع يعود إلى عام 1556.
تُعتبر حجة القِدم الأكثر شيوعاً بين مؤيدي التغطيس وغالباً ما يستعملونها في إثبات واقعية ادعاءاتهم، ونسمع هذه الحجة كثيراً من مروجي العلم الزائف. لكن هل تعتبر حجةً كافيةً لإثبات صحَة هذه الظاهرة؟ هنا لابدَ من الإشارة إلى أنه تم ارتكاب خطأين:
أولهما مغالطةٌ منطقيةٌ تُسمى "الاحتكام إلى التقاليد"؛ أي ادعاء أن الفكرة صحيحة لمجرد أنها استُعمِلت لفترةٍ طويلة! وهذا ببساطةٍ مرفوض، فالعلوم تتطور مع تقدم الزمن ومعرفتنا تزداد وليس العكس، والممارسات القديمة اخترعها الانسان بسبب فقر معلوماته وجهله بما أصبحنا نعرفه اليوم بفضل العلم، فعلى سبيل المثال كان الطب في الماضي قائماً على فكرة خاطئة التي وضعها اليونان –وربما تعود لأقدم من ذلك- وتنص على أن الجسم يحوي أربع سوائل هي الدم والبلغم والعصارة الصفراء والعصارة السوداء، وكان أطباء ذلك الزمن يعتقدون بأنّ علاج طيفٍ واسع من الأمراض يعتمد على إعادة توازن تلك الأخلاط عن طريق "الفصد" أو Bloodletting أي إحداث جرحٍ في الجسم وترك المريض ينزف! ومن هنا يمكن القول باختصار، ليس كل ما اعتاد الناس القيام به لفتراتٍ طويلةٍ صحيحاً بل غالباً يجب أن يدفعنا قِدم الممارسات إلى التساؤل عن دقة الأسس العلمية التي تقوم عليها.
هذا بالنسبة للخطأ الأول، أما الثاني فهو أن الكتاب المذكور أعلاه لم يقر بأنَ التَغطيس هو الوسيلة الفعَالة للعثور على المعادن بل قال العكس تماماً وإليكم النص" لا يجب عليه أن يستعمل العصا المسحورة-يقصد عصا التغطيس- لأنه إذا كان ذكياً وماهراً في فهم إشارات الطبيعة، يدرك بأن هذه العصا لا تفيده". ولهذا يمكن اعتبار أنَ نجاح هذه الطريقة لا يتعدى كونه مجرد مصادفة، أو دراما كان يعتمدها ممارسو هذه العادة لإبهار الزبائن (الباحثين عن المياه في حقولهم أو الباحثين عن شيء ضائع) وإيهامهم بامتلاكهم قدراتٍ خاصة!
وبعد كل هذا، ما هي الآلية التي تعمل بها عصاً خشبيةٌ أو قضيبٌ معدني لايجاد مكان الشيء المفقود، والسؤال الأكثر إلحاحاً هو: كيف تعرف هذه الأدوات ما هو الشيء الذي أبحث عنه عندما أمسكها، كيف تعرف أنني أبحث عن شخصٍ ضائعٍ أو عن مياهٍ جوفيةٍ وكيف تعرف أنني أبحث عن النفط أو الذهب أو قطعة نقودٍ ضائعة؟!
الإجابة على هذه التساؤلات تتنوَع بالتعاليل التي يقدمها التغطيسيون أنفسهم؛ مثل أن الشيء الذي تبحث عنه يشعُ أمواجاً تتلقاها الخشبة التي تمسكها أو ربما بعض الطاقات الخفية، ولا يستبعد بعضهم الأشباح كذلك، وهناك اختلافٌ حتى في آلية استعمال الخشبة والقضيبين المعدنيين فالبعض يقول أن القضيبين إذا تقاطعا فقد وجدت ما تبحث عنه وبعضهم يقول أنهما يجب أن يبتعدا، بينما آخرون بنصحون بارتداء قفازاتٍ مطاطية وبعضهم يحذر منها!
لكن، لماذا نهتم إلى هذا الحد بإيجاد تفسيرٍ لهذه الظاهرة، فلو كانت صحيحة فإننا سنتمكن من إيجاد الأشخاص المفقودين والعثور على آبار النفط ومناجم الذهب، لكانت الحياة سهلة وجميلة أليس كذلك؟!
في الواقع، حتى لو سلَمنا بأن استعمال هذه العصا العجيبة يتبعه العثور على الماء أو أياً كان ما نبحث عنه، فهذا لا يعني أن العصا هي من وجدته ففي هذا مغالطةٌ منطقيةٌ أخرى لا يقع بها التغطيسيون فقط بل معظم رواد العلوم الزائفة ويعتمدها المشعوذون في حيلهم لخداع الجمهور، وهذه المغالطة تُعرف بـ Post hoc fallacy ؛ أي أنَ حدوث حدث ما هو نتيجة حدث يسبقه كالفعل و رد الفعل، أنت تشاهد حدثين متتابعين فتعتبر أن الثاني نتج عن الأول، وكمثال لنفرض مثلاً حدوث كسوفٍ للشمس ومن ثم يقوم أحدهم بضرب الطبل فينتهي الكسوف وتعود الشمس، فهل هذا يعني أن انتهاء الكسوف ناتجٌ عن ضرب الطبل؟ بالتأكيد لا، وكذلك إيجاد الماء بعد استخدام العصا لا يدلّ بالضرورة أن العصا هي السبب، فلو حفرت في أي بقعةٍ أرضيةٍ إلى عمقٍ كافٍ ستجد بعض الماء على الأغلب، كما أنّ المناطق التي تحتوي مياهاً جوفية كثيراً ما تختلف طبيعة نباتاتها ومظهر تربتها مما يمكّن التغطيسيين من كشفها بالنظر.
وإن لم يكن الكلام النظري والمحاججة المنطقية كافيةً لدحض ظاهرة التغطيس فدعونا ننتقل إلى الميدان، فكثرة هذه الادعاءات دفعت الجمعية الأمريكية للعلوم الطبيعية عام 1949 إلى اجراء اختبارٍ شمل 27 تغطيسي طُلِب منهم أن يحددوا مكان وعمق المياه في أرضٍ لا تحوي أي علاماتٍ على وجود المياه، وكانت النتيجة أن لا أحد من التغطيسيين نجح في هذا الاختبار، على عكس علماء الجيولوجيا والمهندسين الذين استطاعوا تحديد عمق الماء.
ورغم فشلهم في الاختبار الذي ذكرناه قبل قليل، إلا أن التغطيسيين يفضلون الاستدلال بتجربةٍ أخرى تؤيد زعمهم، وهي تجربة جرت تحت إشرافٍ علمي في مزرعةٍ في ألمانيا قرب ميونخ في ثمانينيات القرن الماضي و شملت عشرة آلاف تغطيسي، وقالت اللجنة المشرفة بأن الدلائل والمشاهدات تميل إلى إثبات "حقيقة ظاهرة التغطيس". لكن السيد Jim Ernigh من معهد Scripps لم يقر بصحة هذه التجربة والمشاهدة التي تمت، مشيراً إلى أنه في هذه التجربة، رُشِح 43 شخصاً من 500 رأوا في أنفسهم أفضل التغطيسيين وأكثرهم مهارة وتمكناً، ولكن نجاحهم لم يكن قابلاً للإعادة، أي إن نجح أحدهم، يُطلب منه أن يعيد المحاولة مرةً أخرى وعندما فعل ذلك فشل، أي أن نسبة نجاح التغطيسي الماهر الحاذق المتمكن الواثق من نفسه، لم تكن أكبر من نسبة نجاح التغطيسي العادي، فما معنى أن تنجح مرةً وتفشل أخرى؟ هذا معناه أن هذا النجاح وذاك الفشل اعتمد على الصدفة وليس على العصا أو ما شابهها.
وللتأكد أكثر، تمت تجربةٌ مشابهةٌ في التسعينيات في ألمانيا قرب فرانكفورت، أشرف عليها مجموعةٌ من العلماء؛ وتضمنت أنبوباً بلاستيكياً مدفوناً تحت 50 سم من السطح ويمكن أن يجري فيه الماء أو يُوقف، ووضعت إشارةٌ فوق مكان الأنبوب على السطح، وكانت مهمة التغطيسيين أن يقفوا فوق تلك النقطة ويعرفوا باستعمال أدواتهم إذا كان هناك ماءٌ أم لا؛ كانوا متحمسين ومتأكدين من أن نسبة نجاحهم هي 100%، واعتبروا التجربة ذات شروطٍ عادلة فلا يوجد أي تغيراتٍ على سطح التربة قد تشير إلى وجود الماء، وبعد التجربة باؤوا بالفشل وخيبة الأمل، فلم تكن نتائجهم تشير إلا أن نجاحهم اعتمد على الصدفة فمرةً يصيبون ومرةً يخطئون، أما رقم 100% فقد كان بعيد المنال، ومع ذلك فقد أنكروا هذه التجربة وأصروا على الاحتكام إلى التجربة المقامة في ميونخ والتي فندناها في ما سبق.
من المهمّ هنا أن نعرف أيضاً ما هي نتائج تجارب "المجموعات المُتَحَكَمِ بها" Control groups في التجارب السابقة، وهي طريقة يتبعها العلماء في تصميم التجارب العلمية لاستبعاد عامل الصدفة والتحقق من ارتباط النتيجة بالمسبّب، فيأتون بمجموعة تختلف عن المجموعة المدروسة بالموضوع المراد اختباره وهي في هذه الحالة مجموعة عادية دون أي أدواتٍ علمية أو تغطيسيةٍ، ويتم اجراء التجربة نفسها على مجموعة التغطيسيين والمجموعة العادية، فهل حصل التغطيسيون على نتيجة أو احتمالات نجاحٍ أعلى؟ والجواب هو لا، وهو ما يؤكد أن نجاحهم يعود إلى الصدفة لا أكثر.
لكن، ماذا لو قمنا نحن باستعمال هذه العصا وشعرنا فعلاً بقوةٍ من نوعٍ ما تسري فيها؟ سيجيبنا أحد المحررين في موقع New Scientisits وهو السيد Micheal Brooks حيث التقى بأحد التغطيسين الذي حاول شرح هذه الظاهرة وإثبات صحتها؛ وعندما قام بالتجريب بنفسه، أصيب بالدهشة! فلقد أحس أن العصا تجذبه فعلاً، ومع ذلك فإن التعليل بسيط وهو يسمى Idiomotor effect ؛ومفاده أن التأثر بشيءٍ أو توقع حدوثه يؤدي إلى حركةٍ غير إراديةٍ، فلو استعملت عصا التغطيس أكثر من مرة فإنك ستشعر بالفعل أنها تجذبك ومرد ذلك كما ذكرنا إلى الحركة غير الإرادية الناجمة عن توقع حدوث شيءٍ ما(والشيء المتوقع هنا هو أن تقوم العصا بجذب حاملها)، وهذا التأثير هو ما يسبب تحرك مؤشر لوح "الويجا" الذي يعتقد البعض أنه يستخدم للتحدث مع الأرواح أو الأشباح، وقد نتطرق له في مقال قادم.
للأسف، فإن بعض الدول في العالم، قامت مؤخراً باستئجار التغطيسيين ليقوموا بالكشف عن المخدرات والمتفجرات، عوضاً عن الكلاب البوليسية "لتجنب تحويل مدنهم إلى حديقة حيواناتٍ" على حد قولهم ولأنها أسرع بكثير فهي لا تستغرق سوى بضع ثوانٍ، وكما هو متوقع فإن هذا العمل لم يثمر أي نتيجةٍ إجابية.
إضافةً إلى ما سبق فإنك قد تجد العديد من المواقع والجمعيات حول العالم التي تؤيَد هذه الظاهرة وتدعمها، بل وتقدم دورات تدريبية لتعليم فنون التغطيس لكن دونما دليل علمي واضح يؤكَد منهجية هذه الطريقة وصحة العمل بها!
وبعد هذه الأدلة، هل من الممكن أن نقتنع فعلاً بحقيقة ظاهرة التغطيس؟ إذا كانت إجابة أحدكم أعزائنا المتابعين "نعم"-والتي لا نتمناها بالتأكيد- أو كنتم تعرفون أي شخصٍ سيجيب بنعم فما عليكم –أو عليه- سوى التوجه إلى مسابقة " راندي" التي تكلمنا عنها هنا هنا وباختصار فإن السيد جيمس راندي عرض-وما زال العرض قائماً- مليون دولار لكل من يدعي امتلاك قدرةٍ خارقةٍ ويستطيع إثباتها تحت شروطٍ علمية، وقد قام العديد من التغطيسيين بالمشاركة في هذه المسابقة ووافقوا على الشروط المعروضة وكلهم عادوا بخُفَي حنين-كما يقول المثل- بمعنى أنهم فشلوا تماماً، والمال مازال في الخزانة ينتظر من يكسبه!
المصادر: