الطبيعة والعلوم البيئية > عجائب الأحياء
تعليم الكلام للدلافين والحيتان: الدوافع، المحاولات، النتائج
لطالما عرفت الدلافين بكونها حيوانات مسالمة وبصداقتها مع الإنسان ومحبتها للمرح واللهو معه وقابليتها للتدرّب على يديه نظراً لذكائها الاستثنائي. وفي خضم محاولات الإنسان لتعليم الحيوانات الكلام التي تناولنا بعض أمثلتها في مقالات سابقة، كانت الدلافين والحيتان من أبرز الحيوانات المرشحة.
لماذا قد يفكر الإنسان بتعليم الكلام للدلافين؟ .... لأن لها:
- دماغاً أكبر من دماغ البشر بـ 40% وهو الأكثر فعالية بين الحيوانات (القدرة على معالجة المعلومات وحل المشاكل)؛
- قدرةً على التعلّم وتلقي مهارات معرفية بشكل يشابه الإنسان؛
- إمكانية هامة في توظيفها لخدمة البحرية (كعيون للتجسس)؛
- قابليةً للتعرض للعواطف المعقدّة كالغضب.
قام الإنسان سابقاً بتدريب الدلافين الشائعة قارورية الأنف Tursiops truncates على إطلاق رشقات صوتية شبيهة بأصوات البشر، إذ أنها أبدت استجابةً عفوية للصافرات المولدة آلياً بواسطة حواسيب، لكن تقليدها بشكل عفوي للإنسان (بدون حثّها على ذلك) لم يسبق وأن سُجّل من قبل.
نستعرض هنا واحدةً من أولى التجارب التي أجريت لتعليم الدولفين الكلام:
وصف التجربة:
في بيت شبيه بأي فيلا تقليدية من الخارج لكن مغمور بالمياه من الداخل، قضت مارغريت هاو Margaret Howe وهي في عامها الثالث والعشرين وقتها وحيدةً مع الدولفين (بيتر) بغرض تعليمه النطق. كان هذا البيت جزءاً من معهد بحوث مموّل من واشنطن يُعنى بدراسة العلوم البحرية. وقد عزم القائمون –الأكثر إثارة للجدل- على هذا المعهد على استقصاء مهارات الاتصالات عند الدلافين لاعتقادهم بأنها قد تمهّد لاكتشاف وسيلةٍ للتواصل مع المخلوقات الفضائية مستقبلاً!.
أعيد تصميم المنزل خصيصاً ليسمح لبيتر –الدولفين- ومارغريت بالعيش، تناول الطعام، الاغتسال، اللعب والنوم معاً. كان الهدف من التجربة، معرفة ما إذا كان الدلفين قادراً على تعلّم كلام الإنسان وهو ما توقع الباحثون الوصول إليه خلال عقد أو عقدين خلال العام 1960.
انتقلت مارغريت بعد قص شعرها إلى المنزل مرتديةً بزة سباحة وسترةً لليالي الباردة. غُمر المنزل بالمياه المالحة بما يتيح لـبيتر السباحة حولها. تم تزويد مارغريت بمكتب معلق بالسقف لوضع أدوات التجربة وسرير من مادة طافية للنوم مزوّد بستارة لتحميها من الرشقات التي يقذفها الدلفين أثناء النوم. وكانت تعتمد في غذائها على المعلّبات في أغلب الأحيان للحدّ ما أمكن من التواصل مع الغرباء. اشترطت مارغريت بأن فترة 10 أسابيع هي الحد الأعلى لبقاءها وحيدةً مع الدلفين في هذه العزلة.
خلال التدريب أيقنت مارغريت بأن الدولفين مهتم ليس فقط بالأصوات الصادرة عنها بل بمراقبة كيفية إصدار هذه الأصوات، فلجأت إلى طلي المنطقة المحيطة بفمها بالأبيض ولوّنت شفتيها بالأسود لجعل مراقبة حركة فمها أسهل على بيتر.
شاهد الفيديو:
النتيجة:
قبيل بدء التجربة، أيقن الفريق المسؤول عن بيتر بأنه قادر على ضبط وتيرة الصرير والصفارات التي يطلقها بحيث يحاكي الأصوات البشرية. أما خلال الفترة التي قضاها مع مارغريت فقد تعلم كيف يقول بضع كلمات مثل "كرة" و "ألماس" بالإضافة إلى القدرة على التمييز بين بعض الأشياء. مما أثار مارغريت محاولة الدلفين لنطق اسمها حيث عانى من صعوبة إصدار الحرف M، لكنه بدا مصرا على محاكاته وقد حقق ذلك في النهاية إذ كان يتدحرج في الماء بحيث يصدر فقاعات بصوت يشبه صوت ذلك الحرف.
كان التقدم الذي أحرزه بيتر واضحاً لكن فقط لأولئك الذين اعتادوا العمل معه سابقاً، ومع أن التجارب أثبتت منذ عام 1965 أن لدى الدلافين مستويات عالية من الوعي الذاتي وقدرات على فهم إشارات التواصل البشري، إلا أنه لا أدلّةً تُذكر على قدرة الدلافين على استخدام اللغة بالمفهوم الذي نعرفه على الأقل.
توترت العلاقة بعد 3 أسابيع بين مارغريت وبيتر، حيث بدأ يصدر أصواتاً مزعجة ليلاً ونهاراً دون أسباب واضحة مما حملها على الصراخ عليه. بدأت مارغريت تلاحظ حدوث انتصاب لدى بيتر بشكل متكرر خاصةً عند اقترابه منها مما دفعها إلى التفكير بمداعبته وإشباع نزواته لتتمكن من الاستمرار في تجربتها على نحو طبيعي. كان ذلك حلّا بديلا لنقل بيتر من حوض الاختبار المعزول إلى حوض آخر ليلتقي دولفين أنثى، الأمر الذي يمكن أن يسبب اضطرابا في التجربة.
تعرضت هذه التجربة لانتقادات كثيرة لأسباب تتعلق بالتكاليف الضائعة وبسبب ما وصلت إليه العلاقة بين المدربة والدولفين وما انطوت عليه من استغلال للحيوان ومشاعره. تناول الإعلام الفشل الكبير الذي لحق بالتجربة في تعليم بيتر الكلام بالإضافة إلى ما وصلت إليه في النهاية. تجدر الإشارة إلى أن المدربة مارغريت أرجأت الحديث في تفاصيل تجربتها إلى ما يقرب من الـ 50 عام وتحدثت عنها بطلب من الـ BBC فقط بعد أن خمدت القصة. لم تعتبر التجربة لاحقاً موضوعية من وجهة نظر علمية ولم يكن بالإمكان اعتبارها بمقاييس يومنا هذا نواة لمشروع رائد في تعليم الدلافين مثلاً.
كانت تلك تجربةً قديمة لواحدةٍ من أولى المحاولات لكن ليس آخرها مع الحيوانات البحرية. مؤخراً في العام 2012 وبعد تكرار حوادث مثيرة للجدل، عزم الباحثون على دراسة قدرة الحوت الأبيض على إصدار أصوات شبيهة بصوت الإنسان. من هذه الحوادث:
- سماع أصواتها الشبيهة بضجيج الأطفال الذين يصرخون من مسافة بعيدة؛
- خروج أحد الغطاسين العاملين في حوض يعيش فيه حوت أبيض بعد سماعه لأحدهم يقول "out" أي أخرج، ليتبين لاحقاً أن الحوت كان مصدر ما سمعه؛
- قدرة أحد الحيتان البيضاء على قول اسمه "Lagosi"، إضافةً لبعض الأصوات التي تشابه الكلام بروسية أو صينية مشوّهة والتي سمعت من الحيتان.
الحوت الأبيض نوك:
بدأ الحوت الأبيض نوك NOC بإصدار أصوات غير عادية بعد سبع سنوات من رعايته، الأمر الذي فُسّر على أنه محاولةٌ لتقليد البشر كما لو كان حواراً بين شخصين لكن في مجال مكاني خارجٍ عن نطاق فهمنا؛ أي كما لو كان محادثةً بعيدة.
عاش نوك مع مجموعةٍ من الدلافين ومع اثنتين من بنات جنسه وقد تعرض لسماع محادثات البشر على السطح وتحت الماء سواء مباشرةً أو من خلال المعدات المستعملة من قبلهم. وقد تم التأكد من أن الحوت كان مصدر الأصوات الشبيهة بكلام الإنسان.
تولّد الحيتان الأصوات بالضغط على جيوبها الأنفية، وقد أُدخلت فيها معدّات خاصة لقياس الضغط كوسيلة لتسجيل وقت وتردد المرّات التي حاولت فيها الحيتان الكلام. كشفت التسجيلات على أن سعة الترددات الصوتية التي تصدرها الحيتان مماثلة لتلك التي يصدرها البشر، رغم وجود تباين في متوسّط الدفقات الصوتية التي بلغت ثلاث دفقات في الثانية. كما كانت الترددات الأساسية في حدود ترددات الإنسان (بين 200 و300 هرتز).
بعد نضج الحوت "نوك"، تراجعت حدة سلوكه في إصدار الأصوات الشبيهة بصوت الإنسان مع أنه استمر في إصدار ترددات نموذجية لتحديد الموقع بالصدى (الترددات بين 60 و120 كيلو هرتز) بالإضافة إلى الصافرات الطبيعية.
بالنتيجة: أثبتت دراسة التسجيلات الصوتية أن ما تصدره الحيتان البيضاء ليس إلا تقليداً أعمى (غير واعٍ) للصوت البشري.
إذاً فالحيتان أو الدلافين غير قادرة على محاكاة صوت الإنسان بجودة الببغاوات مثلاً كما أنها تحتاج إلى البقاء فترات طويلة مع البشر قبل أن تحاول تقليدهم. إضافة إلى أن إصدارها الأصوات هو تقليد غير واع، من الضروري الإشارة إلى أن قدرتنا كبشر على التعرّف السريع على الكلمات وتحديدها حتى لو كانت مشوهة أو ناقصة، قد يكون السبب في الاعتقاد بتشابه أصواتها مع كلامنا.
هل تعتقدون بأن الإنسان يبالغ أحياناً في طموحاته وتوقعاته عند الخوض في هكذا تجارب؟ أم –على العكس- تؤمنون بأن الحديث يوماً ما مع الحيتان والدلافين لن يكون أمراً مستحيلاً؟
تابعوا مقالنا القادم لتتعرفوا على مبالغتنا في تقدير قدرة الحيوانات على النطق وبعض مفاهيمنا الخاطئة في هذا المجال.
المصادر:
Ridgway، S.، Carder، D.، Jeffries، M.، Todd، M.، 2012. Spontaneous human speech mimicry by a cetacean، Current Biology 22 (20). R860-R861. Available online at، هنا