الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية
عناصر القوة
تحدثنا في مقال سابق عن مفهوم القوة في العلاقات الدولية: هنا
ونقدم لكم اليوم مقالاً جديداً عن عناصر القوة في إطار العلاقات الدولية.
تستند القوة بشكلٍ عام على امتلاك الدولة لعناصر أساسية متعلقة بالخصائص والموارد والقدرات والمؤسسات. تشكل بمجموعها قدرات الدولة الحيوية التي تمكنها من فرض خياراتها على الآخرين، وفقاً للوجهة التي تخدم مصالحها.
وتظهر هذه العناصر بأشكالٍ متعددة ومتنوعة كالمساحة الجغرافية، وعدد السكان، والموارد الطبيعية، والقدرات الاقتصادية، والقوة العسكرية، والبنية التكنولوجية، والفعاليات الثقافية، والمؤسسات السياسية، والحالة المعنوية للشعب وغيرها. ورغم تداخل هذه العناصر وتشابكها لتشكل بمجموعها عوامل القوة الشاملة للدولة، فإنَّ العبرة تكمن أولاً و أخيراً في كيفية استعمالها واستغلالها بكفاءة عالية عند تعرض الدولة لأيّ ضغوطٍ خارجية. واستناداً إلى ذلك تتم عمليّة تقييم القوى ومدى تأثيرها.[1]
و بما أنّ القوة هي قدرة المرء على التأثير في تصرفات الآخرين وفقاً لمصالحه الخاصة، فهناك بعض الصفات والممتلكات التي تخدم أغراض القوة وهي الثروة والموارد والقوى البشرية والأسلحة والحنكة السياسية، غير أنها جميعاً ليست سوى أدوات للقوّة، إذ أنَّ مجرد امتلاكها لا يجعل الدولة قوية، فهي لا تكفل القوة، إلا إذا استخدمتها الدولة بطريقة تجعلها تؤثر على تصرفات الدول الأخرى. [2]
وهناك عوامل عدة للقوة، ولا يوجد عامل بعينه يمكن أن نعزو إليه القوة. إذ لا مكان هنا للحتمية.
العامل الأول: الأرض:
الموقع الجغرافي :
يستند هذا العامل على عناصر أبرزها الموقع الجغرافي، فثمّة دول تحتل مواقع إستراتيجية متميزة على خريطة العالم مثل تركيا و مصر. بينما تقع دول أخرى في مناطق معزولة كأيسلندا. و هناك دول تشرف على ممرات مائية هامة كقناة السويس. امتلاك الدولة لبعض الشواطئ المطلّة على البحر أمرٌ ضروريّ أيضاً، ويترتب عليه امتلاك أسطولٍ بحريّ. [3] والدولة القوية وليست الجغرافية هي التي تضفي أهمية إستراتيجية على مواقعها وحماية الطرق التي تؤدي إلى ممتلكاتها إضافة إلى حماية طرقها التجارية. ومن الأكيد أنّ امتلاك دولةٍ ما لموقع استراتيجي يضفي عليها أهمية كبيرة مما يسهل طرق المواصلات والتبادل التجاري بين الدول [4].
من الجدير بالذكر أن الموقع الجغرافي اكتسب أهمية كبيرة في فترات زمنية سابقة. حيث ظهرت نظريات عدة في الجغرافية السياسية و الجيوبولوتيك عن هذا الأمر. و كان هناك علماء اهتموا بمواقع الدولة المختلفة، وأسسوا النظريات بناء على ذلك، ولكن لا مبررات لهذه النظريات في الوقت الحاضر. [5]
المساحة :
تتباين الدول بالمساحة فهناك دول كروسيا التي تمتد على مساحة شاسعة، و هناك البحرين التي تعتبر دولة صغيرة. وقد ساد اعتقاد بأن هناك علاقة قوية بين المساحة و القوة، فكلما اتسعت المساحة ثمة إمكانية لاستيعاب أعداد أكبر من السكان، إضافة إلى إمكانية وجود الموارد الاقتصادية الطبيعية. ولكن لهذا الاعتقاد رغم صحته استثناءات، فمساحة الأرض لكندا عامل سلبي مقارنة بالامتداد للقطب الشمالي فهذه المساحة الكبيرة لم تزد لقوة كندا أي شيء، و رغم صغر حجم الكويت ففيها إمكانات نفطية هائلة. [6]
وحدود ومساحة الدول، ليست مستقرة. فعلى مرّ العصور اتسعت مساحة الصين ثم اضمحلت وفقاً لظروف الأسر المتعاقبة التي كانت تحكمها. وصحيح أن أقوى دولتين في العالم (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) قامتا على مساحتين شاسعتين جداً من الأراضي. فإن إنكلترا على سبيل المثال سيطرت على أراضي تكبر عن مساحة أي دولة أخرى في العالم. وقد تكون المساحة أحد العوامل التي تشكل القوة، ولكنها ليست العامل الوحيد فيجب أن تقترن المساحة بالقوة جنباً إلى جنب. [7]
و قد تسهم المساحة في زيادة قوة الدولة، إذا كانت الأراضي غنية بالموارد. وللمساحة الكبيرة أيضاً بعض الفوائد العسكرية، فالمساحة الشاسعة هي التي ساعدت على هزيمة جيوش نابليون وهتلر في روسيا، وجيوش اليابان في الصين. وتتيح المساحة أيضاً إرساء المراكز الحيوية بالصناعة والحكومة بعيداً عن حدود الدولة، وهذا يضفي ميزة إستراتيجية. وللمساحة الشاسعة مزايا هامة في الحروب، فإذا حدث وهزمت دولة كبيرة في حربٍ ما فإنه من الصعب احتلال المساحة الشاسعة لهذه الدولة، والسيطرة عليها. فمن المستحيل مثلاً احتلال الصين. غير أن انكلترا استطاعت أن تحتل الهند مدة كبيرة. إذن فمساحة الرقعة عامل يرتبط بالقوة القومية وهي في حد ذاتها ليس لها تأثير كبير على قدرة الدولة.
المناخ:
موقع الدولة على خطوط الطول والعرض يؤثر على مناخها وبالتالي على النشاطات الحيوية فيها كالزراعة. هناك من قال بأنّ جميع الدول الكبرى في العصور الحديثة هي دول معتدلة مناخياً، ولكننا لا نستطيع أن ننسى أن الحضارتين المصرية والهندية ظهرتا في مناطق استوائية.
نستطيع القول الآن بعدم وجود أهمية كبيرة للمناخ في ظل التطورات الحديثة مثل تكييف الهواء و الآلات الذاتية التي قد تجعل الصناعة الحديثة تتلاءم مع كافة المناخات. [8] وشكل الدولة من حيث التضاريس الطبيعية، جبلية أم سهلية، أو كونها جزراً أو أقاليم قارية. [9]
الموارد:
يشمل إقليم الدولة ما تحته من موارد مختلفة، و تتحدد قوة الدولة وقدرتها في استعمال هذه الموارد، كمصادر الطاقة أو ثروات معدنية ومصادر المياه والموارد الزراعية. [10]
و بلا شك أن امتلاك الدولة للثروات المعدنية داخل أراضيها بالإضافة إلى الوقود يجعلها ذات أهمية كبيرة، لما تتركه من أثر على قوة الدولة. ولكن يجب ليس فقط امتلاك المواد الخام بل القيام بتصنيع السلع. فلا بد من التمييز بين استخدام الموارد الطبيعية وامتلاك هذه الموارد. والموارد المعدنية والوقود ليست مصدراً للقوة، ما لم يتم استخراجها وتنقيتها. والحصول على الموارد كان محطّ أنظار الدول الاستعمارية في الماضي، فكانت تقوم إحدى الدول بغزو دولة أخرى من أجل الموارد. وهناك طريقة أخرى وهي تنمية المصادر التي توجد بأراضي دولة أخرى دون غزوها عن طريق كسب بعض الامتيازات أو التدخل في إدارتها السياسية. ومن الممكن للدولة أن تشتري هذه الموارد كمواد خام ثم تعيد تصنيعها. [11]
العامل الثاني: الشعب :
مهما كانت قوة الجيش، فهناك حاجة دائمة إلى مؤازرة السكان له. فالعامل البشري مهم جداً في التأثير على قوّة الدولة.[12] حيث أنَّ السكان يمثلون قوّة بشرية في العمليات الحربية، وفي الإنتاج الاقتصادي. ولضخامة السكان ميزة عسكرية، فمن الصعب قهر دولة كثيفة بالسكان المستقرين. وكذلك الإنتاج الاقتصادي يتوقف على حجم القوة العاملة فيه. و ضخامة السكان يكفل سوقا استهلاكياً هاماً للمنتجين.[13] وهو العنصر الرئيسس الذي تتحدد بناءً عليه القيمة الحقيقية لعدد السكان كمورد قوة أساسي للدولة. وهناك أيضاً التوزيع العمري للسكان، الذي يبين قوّة العمل والتجنيد في الدولة ومعدلات التقديمات الاقتصادية في المجتمع، ويشير إلى بعض المشاكل السياسية المحتملة، والتوزيع الجغرافي للسكان على الأقاليم بين الأرياف والمدن، ومؤشر تنوع العرقي الديني للسكان، فوجود مشكلات عرقية أو حساسيات دينية، يؤثر على التجانس الاجتماعي ويعرض الدولة لمشكلات حادة كالمطالبة بالانقسام.
العامل الثالث: المؤسسات :
هي الإطار القادر على تحويل عناصر القوة إلى قدرات و أدوات قابلة للصرف في مجال التأثير على غيرها من الدول. و استقرار النظام السياسي عامل مهم جداً، فهناك نظم سياسية غير مستقرة بمستويات أدت إلى انهيار هيكل السلطة المركزية، وتفكك الدولة في بعض الأحيان، أو تفجر العنف المسلح داخل الدولة لفترة طويلة. و هناك نظم سياسية تكفل إدارة العملية السياسية داخل الدولة دون مشكلات قائمة أو محتملة و تكون القرارات التي تتخذها تتصف بدرجة كبيرة من العقلانية. و أيضا يرتبط هذا العنصر بكفاءة النظام السياسي في إدارة شؤون الدولة، و امتلاكه الكوادر التنظيمية، و المهارة الفنية اللازمة لتعبئة و استخدام الموارد الأساسية لصالح الدولة. و أيضا يشمل هذا العنصر، مدى مساندة الشعب لحكومته، فالنظم السياسية بدون غطاء شعبي تصبح مهددة بالزوال و هذا فضلاً عن الفوضى داخل الدولة.
هذه العناصر هي تمثل في غالب الأحيان، قاعدة لقوة الدولة. حيث ينظر إليها كأساس يتم الاستناد إليه، لتحويل القوة الكامنة إلى قوة فعلية ظاهرة و ملموسة.
تابعوا معنا، أعزاءنا المتابعين، المقالة القادمة في هذه السلسلة عن وسائل القوة.
المصادر:
1- عيد مسلم، قضايا عالمية معاصرة (دمشق:منشورات جامعة دمشق/كلية العلوم السياسية،2011).
2- اوراجنسكي أ.ف.ك.اورجانسكي،السياسة العالمية(القاهرة: مطابع شركة الإعلانات الشرقية).
3- سعيد مسلم، قضايا عالمية معاصرة،(دمشق:منشورات جامعة دمشق/كلية العلوم السياسية،2011).
4- أ.ف.ك.اورجانسكي، السياسة العالمية (القاهرة: مطابع شركة الإعلانات الشرقية ).
5- المرجع السابق.
6- سعيد مسلم،قضايا عالمية معاصرة،(دمشق:منشورات جامعة دمشق/كلية العلوم السياسية،2011).
7- أ.ف.ك.اورجانسكي،السياسة العالمية،(القاهرة: مطابع شركة الإعلانات الشرقية ).
8- أ.ف.ك.اورجانسكي،السياسة العالمية،(القاهرة: مطابع شركة الإعلانات الشرقية ).
9- سعيد مسلم،قضايا عالمية معاصرة،(دمشق:منشورات جامعة دمشق/كلية العلوم السياسية،2011).
10- المرجع السابق.
11- أ.ف.ك.اورجانسكي،السياسة العالمية،(القاهرة: مطابع شركة الإعلانات الشرقية ).
12- نيكولاس ميكافيللي،الأمير، ترجمة فايزة نجيب خليل (دمشق: دار البشير،2009).
13- .ف.ك.اورجانسكي،السياسة العالمية،(القاهرة: مطابع شركة الإعلانات الشرقية ).