البيولوجيا والتطوّر > علم الجينات
دراسة تكتشف دوراً جديدا للبروتينات، متحديةً كتب العلوم!
بعدما قرأت المقال التالي، حضرني قول الشافعي: وإذا ما ازددت علما زادني علماً بجهلي لأكثر من نصف قرن، ونحن نتعلم وندرس ما وصفه فرانسيس كريك عام 1957 بالدوغما المركزية central dogma للبيولوجيا الجزيئية. ولأكثر من نصف قرن، ونحن نتعلم شيئا ً ليس صحيحا ً بالشكل الكامل. فمنذ عدة أيام، اكتشف العلماء ما يخالف هذه الدوغما المركزية.
هل تعلمون ما معنى كلمة دوغما أساسا ً؟ يطلق هذا المصطلح على أي فكرة أو معتقد غير قابل للتشكيك. بمعنى آخر، الدوغما قد تكون نظرية أو فكرة قد تحولت لحقيقة أو لإيمان مطلق. أما الدوغما في البيولوجيا الجزيئية، فكثير منكم يعرفها.
أجل، إنها تلك النظرية التي تشرح كيفية نقل المعلومات الوراثية من الـ DNA إلى الـ RNA ، ومن الـ RNA إلى المنتج النهائي: البروتينات!
وتشترط الدوغما المركزية بأنه لا يمكن قلب هذه المعادلة، أي لا يمكن تحويل البروتينات إلى RNA ومنه إلى DNA (مع بعض الإستثناءات). فباختصار وبدون الخوض في التفاصيل، حتى يتم تشكيل البروتين، يجب أن يتم ربط أحماض امينية معينة بترتيب محدد بدقة. فتبدأ هذه العملية باستنساخ قسم معين من الـ DNA ومنه يتم تشفيره إلى RNA بعملية تدعى الانتساخ، والأخير يذهب إلى الريبوسوم ribosome على هيئة RNA مرسال (mRNA )، ليعطي التعليمات للريبوسوم بانتقاء الأحماض الأمينية المطلوبة ليقوم بالتالي بإدخالها وربطها مع بعضها لتشكّل في نهاية المطاف البروتين. أما نقل الأحماض الأمينية من سيتوبلازم الخلية إلى موقع إنتاج البروتين، فيتم بواسطة الـ RNA الناقل، tRNA إذ تقوم جزيئات الـ tRNA بالارتباط مع الأحماض الأمينية المختلفة وإيصالها إلى الريبوسوم، ليستخدمها الأخير في عملية انتاج البروتين .
فحينما تفتح أي كتاب من كتب بيولوجيا ، فإن أحد أول الأشياء التي ستتعلمها هو ما ذكر تواً. ولكن النتائج التي خلصت إليها الدراسة التي نشرت في الثاني من يناير في مجلة العلوم science تتحدى هذه الكتب الأكاديمية. فلأول مرة تأتي دراسة من هذا النوع لتوضح بأن الاحماض الامينة تستطيع ان تشكل البروتين بدون الحاجة لكل من DNA و الـ RNA الرسول، أو mRNA، على عكس ما كنا نتعلمه منذ الخمسينات القرن الماضي. فقد راقب فريق من الباحثين حالة استثنائية يبدو فيها بأن هناك بروتين من نوع ما يقوم بإضافة أحماضا ً أمينة ً معينة من تلقاء نفسه، دون أخذ تعليمات من جزيء mRNA ، ليقوم بتركيب سلاسل بروتينية خاصة. مما يعني أن تحديد تراتبية تركيب الأحماض الأمينية ليس محصورا ً بمعطيات الشيفرة الوراثية فقط، إنما أيضا ً بتعليمات هذا البروتين المذكور.
وقد علق الكاتب الأول للبحث، الدكتور بيتر شين: " يعكس هذا الاكتشاف المفاجئ مدى عدم اكتمالية فهمنا للبيولوجيا. فللحياة قدرات أكثر مما كنا نتخيلها". لتوضيح المعتقد الحالي عن عملية انتاج البروتينات، فقد شبه الباحثون الخلية بأنها عبارة عن مصنع سيارات يعمل بشكل جيد. وبأن الريبوسومات هي كالماكينات التي تعمل على خط إنتاج البروتينات، تقوم بتركيب الأحماض الأمينية ووصل بعضها ببعض حسب معطيات الشيفرة الوراثية. خلال هذه العملية، في حال حدوث خطأ ما، سيتوقف الريبوسوم عن العمل، وسيجتمع فريق من أخصائي ضبط الجودة في مكان الخطأ. ومن هنا، يقوم هذا الفريق بتنظيف المكان وذلك بتفكيك الريبوسوم، وبالتخلص من البصمة الوراثية "أي تحطيم جزيء mRNA ، وبإعادة تدوير المنتج البروتيني الغير مكتمل أي تحطميه وتفكيكه الى احماض أمينية .
هذا ما كنا نعرفه، أما الآن، وبفضل هذه الدراسة، فقد تبين أن هنالك دورٌ يلعبه أحد أفراد طاقم ضبط الجودة، المدعو بمعقد ضبط الجودة الريبوسومي الثاني Ribosomal Quality Control Complex 2، واختصارا Rqc2 ، وهو في الأصل عبارة عن بروتين. فقبل أن يتم إعادة تدوير المنتج البروتيني الغير مكتمل، يقوم الـ Rqc2 بإجبار الريبوسوم على إضافة حمضين أمينيين اثنين فقط، وهما الألانين alanine والثريونينthreonine ، لعدة مرات دون أي ترتيب معين. ومن هنا يأتي السؤال، كيف استطاع هذا البروتين أن يضيف أحماضا ً أمينية دون أخذ املاءات أو توجيهات من الشيفرة الوراثية!
لنشبه ذلك بالمثال التالي، تخيل أنك تشاهد أحد خطوط الإنتاج في مصنع للسيارات. فبالرغم من وجود خطأ وبغياب تعليمات الإنتاج، إلا إن المكائن مازالت تعمل لتقوم بإضافة وتركيب قطعتين معينتين لتضيفها للمنتج دون أي ترتيب أو نظام معين، كأن تضيف مثلاً: عجلة – زمّور – زمّور – زمّور – عجلة – زمّور – عجلة – عجلة – عجلة – زمّور... إلخ.
تعقيبا ً على ذلك يقول الدكتور آدم فروست: "في هذه الحالة، لدينا بروتين يقوم بالعمل الذي يقوم به جزيء mRNA، لقد أحببت هذه الفكرة لأنها تخفي الحدود التي كنا رسمناها عن الأعمال التي يمكن أن تقوم بها البروتينات" .
حتى الآن كل ذلك كان كلاما ً نظريا ً، فما معنى هذا الاكتشاف الآن على الصعيد العملي؟ هل يمكن أن يتغير إدراكنا لبعض الحالات البيولوجية للأمراض؟
هنا يكمن مغزى الحديث، أجل بالطبع، ففهمنا لبعض أمراض الانتكاسات العصبية Neurodegenerative diseases ، مثل الزهايمر، والتصلب اللويحي، ومرض هينتغتون، وغيرها مبني على فهمنا للدوغما المركزية كما وصفها كريك عام 1957. هذا يعني أن الاكتشاف الأخير قد يؤدي إلى إعادة دراسة أسباب مثل هذه الأمراض، وبالتالي إيجاد علاجات فعالة مبنية على تلك المعرفة الجديدة. وبالعودة لتشبيهنا لمصنع السيارات، كما هو الحال مع سيارة غير مكتملة مع العديد من العجلات والزمامير، فالبروتين الغير مكتمل والذي يحمل العديد من الألانين والثريونينthreonine بتتابع غير مقروء يبدو غريبا ً وغير وظيفي على أية حال. إلا أن هذا التتابع الغير مقروء يبدو أنه يلعب أدوارا ً مهمة. فقد يكون هذا التتابع إشارة للخلية لبدء عملية تدمير هذا البروتين المشوّه، أو قد يكون بمثابة فحص تقني للتأكد من كفاءة عمل الريبوسوم قبل تفكيكه. البراهين المستخلصة من هذه الدراسة تثبت بأن أي من الحالتين أو كلاهما قد تكون معطوبة في أمراض الإنتكاسات العصبية.
لقد أخذ العلماء هذه الحادثة بعين الاعتبار حينما شاهدوها بأم أعينهم. فقد ابتكروا تقنية مخصصة لكشف هذه الحادثة، سميت بتقنية المجهر الإلكتروني تحت التجميد Cryo-electron Microscopy، والتي تسمح لمستخدميه بمشاهدة الجزيئات خلال عملها في العيّنات بدرجات تجميد عميقة والذي يتم غالبا باستخدام النيتروجين السائل. فقد سمحت هذه التقنية للعلماء بمشاهدة عملية ضبط الجودة خلال تصنيع البروتين وذلك بتجميد العينة وتصويرها ومن ثم إخراجها ببنية ثلاثية الأبعاد.
بالعودة للدوغما المركزية، فإنها تنص على أن نقل الأحماض الأمينية من سيتوبلازم الخلية إلى موقع إنتاج البروتينات (أي معقد الريبوسوم مع الـ mRNA يتم بواسطة الـ RNA الناقل، فيقوم هذا الأخير بالارتباط مع حمض أميني ما متواجد في سيتوبلازم الخلية، وينقله إلى الريبوسوم، فيستلم الأخير الحمض الأميني المطلوب حسب تعليمات الـ mRNA ليضيفه إلى سلسلة تركيب البروتين، ليتحرر الـ tRNA
ومن هذا المبدأ، ففرضية عدم الحاجة لتعليمات الـ mRNA لاستلام الأحماض الأمينية من الـ tRNA استهلكت العديد من التحاليل الكيميائية الحيوية لإثباتها. فقد بينت آلية عمل تتابعات الـ RNA المكتشفة مؤخرا ً بأن المعقد البروتيني الريبوسومي RQC2/Ribosome له القدرة على إضافة الأحماض الأمينية إلى البروتينات المتوقفة دون الحاجة للـ mRNA فهذا المعقد قادر على الإرتباط مع الـ RNA الناقل tRNA ، لإنتقاء حمضين معينين، كما ذكر آنفا ً، إذ لا يمكنه أن يرتبط مع أي tRNA، فهو يرتبط مع الـ tRNA الحاملة للألانين الثريونين فقط لا غير! فقد كانت هذه هي النقطة الفاصلة في الإكتشاف الجديد، والتي تبينت بوضوح بعدما تأكد الباحثون بأن السلسلة البروتينية المعطوبة لا تحمل سوى تراتبيات غير مقروءة لهذين الحمضين الأمينيين فقط.
وفي الختام، يبدو أن الأمراض المستعصية ليست مستعصية بسبب عدم وجود علاجات ناجعة، إنما قد يكون السبب هو عدم فهمنا أو إدراكنا بآلية المرض نفسه بالأساس.
المصادر: