التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية
الآلهة و العقائد و الميثولوجيا الكنعانية-الأوغاريتية ... الجزء الرابع
وصلنا معكم إلى الجزء الرابع من هذا العمل الموسوعي المميز عن الميثولوجيا الكنعانية-الأغاريتية المميزة، حيث ستنتهي رحلتنا في هذا الجزء الذي سيسلط الضوء على التفسيرات للأساطير التي تم استعراضها في الأجزاء الثلاثة الماضية، إن هذه التفسيرات تعكس فكر الشعوب في ذلك الزمان وتوضح لنا كيف كان ينظر الناس إلى الأساطير والقصص المختلفة التي كانت تمثل ثقافة ذلك الشعب، على العموم نرجو أن تكون هذه السلسلة قد حققت المراد منها وساهمت في بناء التصور الواضح عن جزء من تاريخ سوريا.
إذا كنت لم تقرأ الأجزاء السابقة ندعوك للاطلاع عليها:
الآلهة و العقائد و الميثولوجيا الكنعانية-الأوغاريتية ... الجزء الأول
الآلهة و العقائد و الميثولوجيا الكنعانية-الأوغاريتية ... الجزء الثاني
الآلهة و العقائد و الميثولوجيا الكنعانية-الأوغاريتية ... الجزء الثالث
التفسيرات و الأصول النفسية لهذه الأساطير و مدى وحدة فكر الشعوب في منطقة بلاد الشام :
من خلال قراءة الأساطير السابقة و الميثيولوجيا في بلاد الشام و بلاد الرافدين بشكل عام تتضح لنا عدة نتائج سأذكرها مع الشرح البسيط :
1_ ان الأساطير التي صاغها الكنعانيين و ما سبقهم و لحقهم من شعوب كانت عاملاً حاسماً في بناء النظام الفكري و الاجتماعي الذي انتجته هذه الشعوب و عاشت وفقه ، ففي قصة ولادة أدونيس و وفاته مثلاً نجد هدفاً واضحاً من القصة و الذي هو إيضاح ما هو صحيح و ما هو خاطئ في موضوع الحب و الإنجاب و الزواج من وجهة نظر المجتمع و ربط اقتراف الذنب أو الخطيئة بعقوبة الإله كما حدث لأدونيس و فينوس عندما مارسا الحب في المعبد و كان عقاب الآلهة هو ولادة الخنزير الذي قتله كنتيجة عن هذه الخطيئة .
2_ ان هذه الميثولوجيا التي صاغتها شعوب المنطقة عبر زمن طويل وفرت تفسيراً مقبولاً و منطقياً عن اهم تساؤلات الانسان المحيرة عن الظواهر الطبيعية و الحياة و الموت و ما بعد الموت و الخلق .. الخ ، حيث كانت الوسيلة الوحيدة التي سيشبع بها الانسان غريزة المعرفة التي تدفعه دائما الى تفسير كل ما حوله من غرائب في غياب التكنولوجيا و المعرفة العلمية التي نمتلكها في القرن الواحد و العشرين ، فأصبح في ذلك الزمن للرعد اله و للمطر اله و للخير آلهة و للشر كذلك و خدمت هذه النظم الفكرية البشرية و المجتمع الكنعاني الى حد بعيد نسبياً .
3_ لقد كانت الأساطير الكنعانية هي عبارة عن مرحلة تطورية ذات بصمة مميزة في الفكر البشري الذي بدأ مع الكتابة، و نجد آثار الأفكار و الأساطير السابقة للمرحلة الكنعانية في الكثير من أدوار آلهتها و ملاحمها و أساطيرها و خير مثال على ذلك اسطورة أدونيس و فينوس و التي تمثل نسخة أحدث من اسطورة عشتار و تموز أو دوموزي البابلية و التي تحمل معاني كثيرة ذات أهمية عالية في الفكر الإنساني الذي ساد في تلك الفترة، و سبب هذا التناقل و الترابط الفكري بين هذه الشعوب و الذي استمر بشكل أو بآخر الى هذا العصر هو شمولية هذه القصص و الملاحم في تغطية الكثير من الفجوات التي نتجت عندما حاول الإنسان القديم أن يفهم كل ما حوله و سآتي على شرح بسيط لأصول هذه الأساطير في الفقرة القادمة.
4_ عند تتبع الفكر الديني للانسان و المراحل التطورية التي مرّ بها سنجد ان هناك عوامل كثيرة تتدخل فتغيره أو تعدل عليه كالظروف الطبيعية أو النقلات الحضارية ، فعند العودة الى بدايات هذه المعتقدات نجد أنفسنا مثلاً عند تماثيل الربة الأم التي سبقت كل هذه الأساطير و كانت رمزاً دينياً مهماً في مراحل سابقة و بدراسة هذه التماثيل و الاساطير التي كتبت عن الربة الام لاحقاً و بالاطلاع على علم النفس الحديث نجد أن العوامل المشتركة تشير بشكل دائم الى الدوافع النفسية الاساسية للإنسان و أشهرها الجنس .
لماذا الجنس ؟
نعلم اليوم من خلال علم البيولوجيا أن جينات كل الكائنات تدفعها بشكل مستمر الى التكاثر كهدف أساسي للكائن الحي، و نعلم أيضاً من خلال دراسة علم النفس لدى فرويد و تحليل عالم النفس كارل يونغ للأساطير الأولى أن الانسان ليس مستثنى من الاهتمام الكبير بموضوع التكاثر ، و لذلك نجد أن الإنسان سارع الى رسم رموز الذكر و الانثى و نحت تماثيل الخصوبة و الربة الأم التي تحولت الى عشتار و فينوس و إيزيس و افروديت بمراحل لاحقة بتفاصيل تدل على الخصوبة بشكل كبير كعرض الورك و التركيز على حجم الصدر بعد وصول الوعي و الفكر الانساني الى مرحلة تسمح له بالاعتقاد و تخليد هذا الاعتقاد من خلال فنونه .
و بعد أن وصل الى مرحلة أصبح فيها قادر على انتاج الأفكار و مشاركتها احتاج الانسان الى نظم اجتماعية ليعيش من خلالها ، و كما نقول اليوم في علم الإجتماع أن الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع عرف الانسان هذا الأمر جيداً ، فابتكر الزواج و مفهوم الاسرى ليضبط و يحدد دور التكاثر و الانجاب في الحياة الاجتماعية للكائن الذكي و مع ابتكاره لهذا النظام الجديد ربط الإنسان كل افكاره عن الخلق و الآلهة و الظواهر الطبيعية بهذا النظام فأصبح للآلهة أنساب و عائلات و أبناء .
و كما حصلت تلك النقلة التطورية في ميثولوجيا الانسان القديم مع ابتكار النظم الاجتماعية تكررت عند اكتشاف الزراعة و تظهر علامات هذا الابتكار الجديد في اسطورة تموز و عشتار أو أدونيس و فينوس بشكل واضح عندما نعرف ان أدونيس هو رمز الخصب و الحياة و الربيع ، و ان الخنزير هو رمز الشر و تدمير المحاصيل ، و أن شقائق النعمان هي رمز بداية الربيع، و يذكر في تفاصيل أسطورة عشتار و تموز كيف طعن الخنزير أدونيس في قلبه و خصيته و هذا يدل بشكل كبير على تجسيد الانسان لموضوع الخصب في أفكاره و يظهر ذلك في أهمية دم أدونيس في اعادة الارض للحياة زرع الخصب بها .
خاتمة :
و كما كانت الكثير من هذه النقلات الحضارية كانت الميثولوجيا الكنعانية متألقة مع اختراع الأبجدية الأوغاريتية و التطور الثقافي الذي حصل في تلك الفترة مما أدى فيما بعد الى تغيّر في المعتقدات التي أخذتها الشعوب اللاحقة من الكنعانيين مما أدى الى ظهور الديانة اليهودية في زمن ليس ببعيد عن تاريخ الكنعانين و من خلالها أثرت تلك الأساطير تأثيراً لا يمكن تجاهله على الكثير من المعتقدات التي تلتها و خلدت في الالواح الطينية، في أسماء مدن سوريا و لبنان ، و في معتقداتنا و حياتنا التي نعيشها اليوم دون ان نعرف مساهمة الكنعانيين و الشعوب الأخرى في تشكيلها و تطورها .
لوحة من العاج تظهر فيها الآلهة عشتارة عارية الصدر بين عنزتين مرتدية تنورة فضفاضة و هي الهة الخصب و سيدة الحيوانات البرية
يعد هذا التمثال من أشهر التماثيل التي نحتت لإيل حيث تظهره بنفس الصفات التي وصف بها الملك أبو السنين – الأب المتعالي – الرزينة .. )
على اليمين : يظهر بعل بمظهر ألوهيته حاملاً في إحدى يديه رمحاً يصدر البرق و يحمل في يده الاخرى هراوة للقتال
على اليسار : تمثال أصلي لبعل موجود في متحف اللوفر و يوجد منه نسخة مقلدة في المتحف الوطني في حلب
المصادر:
الحياة الدينية في المجتمع الأوغاريتي حكيم صالح. دمشق: المديرية العامة للآثار والمتاحف ،2010
أناشيد البعل حسني حداد ، د. سليم مجاعص. بيروت: امواج للنشر و التوزيع، 1995
المعتقدات الكنعانية خزعل الماجدي. عمان: دار الشروق، 2001
قاموس الآلهة و الأساطير ف.رولينغ، محمد وليد خياطة. ط1. دمشق: الأهالي للطباعة و النشر، 1987.
مغامرة العقل الأولى فراس السواح. دمشق: دار علاء الدين، 1978.
دين الانسان فراس السواح. دمشق: دار علاء الدين، 2002.