البيولوجيا والتطوّر > التطور
مستحاثات بحجم حبات الرمل تقدم رؤيةً جديدةً لدراسة التطور
في طبقات صخور الأرض المختلفة وجدنا مستحاثات لا حصر لها تثبت أن الأنواع مرت بتحولات كثيرة حتى وصلت إلى أشكالها الحالية. كانت مستحاثات بعض الأنواع التي وجدناها موزعة بتسلسل منطقي تماماً في طبقات الصخور العائدة إلى العصور المتتالية على وجه الأرض حيث وجدنا الكثير من الأشكال الوسيطة التي تثبت أن هذه الأنواع تطورت بشكل تدريجي بطيء جداً. ولكن في الوقت نفسه هناك أنواع عديدة افتقر السجل الأحفوري إلى بعض أشكالها الوسيطة في مرحلة ما من رحلتها التطورية، وهذا ما يثبت أن حدوث قفزات تطورية هو أمر ممكن. يعتقد العلماء اليوم أن كلا النوعين من التطور (التدريجي والمفاجىء) مسؤول عن التنوع الهائل للحياة على الأرض وقد يخضع الكائن نفسه لكليهما.
يُجري مختص علم البيئة التطوري الدكتور توماس إزارد دراسة مفصلة على بعض منخربات البلانكتون planktonic foraminifera وهي كائنات مائية تابعة لشعبة كبيرة من وحيدات الخلية هي شعبة المنخربات (أو المثقبات) foraminifera وتعني الكلمة حرفياً ذوات الثقوب وذلك لأنها تشكل أصدافاً تحوي على حجرة أو أكثر. تكون هذه الكائنات عادة بحجم أصغر من ميليمتر واحد وتبدو للعين المجردة كحبات الرمل. ويُعتقد أن رواسب مكونة من قواقع هذه الكائنات أحادية الخلية تشكل قرابة 70% من قاع البحر في بعض أجزاء محيطات العالم. والميزة الأساسية من دراسة منخربات البلانكتون لفهم التطور هي سجلاتها الأحفورية الغزيرة والمذهلة.
عند موتها تهبط أفراد هذه الكائنات إلى قاع البحر حيث تتراكم فوق بعضها. ثم يكشف حفر قاع المحيطات عن الآلاف منها في تسلسل يوضح كيف كان شكل كل نوع منها عبر التاريخ، وهذا التاريخ هو صورة عن التطور جاري الحدوث (evolution in action).
تفتح هذه الورقة البحثية الجديدة للدكتور إزارد النقاش ثانية حول الطريقة الأفضل لفهم كيفية نشوء الأنواع الجديدة، ويتعلق النقاش بما إذا كان سجل المستحاثات (لمنخربات البلانكتون و غيرها من الكائنات) يحتوي على أدلة عن التطور أهم من تلك الجزيئية(الخاصة بالبيولوجيا الجزيئية) أم لا. النظرية التي يدعمها إزارد وزملاؤه في جامعة ساوثمبتون في بريطانيا هي نظرية جدلية بحق، فهم يعتقدون أن نشوء الأنواع (speciation) يترافق مع انفجار سريع للتطور الوراثي وهذا التفجر السريع(أو المفاجىء كما وصفناه في المقدمة) كما يقول إزارد قد يساعد على انفصال النوع الجديد عن سلفه.
إنها مسألة مثيرة للجدل لأنه من الصعب تتبع هذه الأنواع الجديدة القادمة إلى الوجود بدقة وبدون بيانات المستحاثات. ومن الأكثر شيوعاً تحديد هذا الأمر بناء على افتراضات ناتجة عن دراسة الأنواع الحية اليوم باستخدام الأدلة الجزيئية. ما يحاول إزارد اليوم إثباته هو العلاقة بين مجموعتين مستقلتين من الأدلة على التطور هما البيانات الخاصة بالمستحاثات والبيانات الوراثية الجزيئية. التطور الجزيئي عادة يستخدم أدلة من أنواع لا تزال حية اليوم لتحديد كيف كان شكل أسلافها، وبدلاً من توفير دفعات كبيرة من التغيرات فإن نظريات التطور الجزيئي تركز تقليدياً على التغير الجزيئي التدريجي عبر الزمن.
أول من طرح فكرة تفجرات نشوء الأنواع هو مارك باغل وزملاؤه في جامعة Reading في أواسط العقد الأول من القرن الحالي والذي اعتقد أن الزمن لوحده ليس كافياً لتفسير التنوع الجزيئي للحياة على الأرض. ويؤكد البحث الجديد على أهمية استخدام دليل الحفريات والنماذج الجزيئية معاً. ويقول إزارد إن المنخربات البلانكتونية موجودة منذ عدة ملايين من السنين والصخور التي تحتوي أنواعاً منها يمكن تحديد عمرها بدقة ويمكن المقارنة بين أفراد هذه الأنواع؛ ولذلك يمكننا استخدام مستحاثاتها كأدلة عن كيفية تطور الأنواع عبر الزمن.
يرجو الدكتور إزارد أن يصبح استخدام نوعي البيانات معاً (الأحفورية والجزيئية) شائعاً في الدراسات التطورية المستقبلية، لكن أحد العوامل التقليدية المقيدة لدراسة التطور من خلال المستحاثات هو قلة البيانات الوراثية. حيث قام وزملاءه بالربط بين الأدلة الخاصة بالمستحاثات وبين كل البيانات الوراثية المتوفرة عن المنخربات فكانت البيانات الوراثية المتوفرة مقتصرة على مورثة واحدة فقط حالياً، لكن العمل جارٍ لتوسيع هذه القاعدة من البيانات. ومن يدري ما قد يكتشفه البحث!
المصادر: