البيولوجيا والتطوّر > أسئلة شائعة عن نظرية التطور
الجزء الثاني - كيف ينتج الانتقاء الطبيعي أنواعاً جديدة، وكيف تبقى بعض الأنواع على حالها؟
عندما يتم الحديث عن نظرية التطور فإن أحد الاسئلة التي تتكرر على مسامعنا كثيراً هي عن نشوء انواع جديدة عن طريق الانتقاء الطبيعي، وإن كان الانتقاء قادراً على تطوير أنواعٍ جديدة، فكيف بقيت بعض الأنواع القديمة حتى الآن؟، فما هي الاجابة على هذه التساؤلات؟ تابعوا معنا هذه السلسلة من المقالات علها تساعد في وضع الأمور في نصابها عن طريق تقديم الأجوبة العلمية على هذه الأسئلة وغيرها من أهم الاسئلة الشائعة عن نظرية التطور، وللإطلاع على المقال الأول من هذه السلسلة من هنا
- كيف يمكن لـ "طفرات عشوائية" أن تخلق تركيبة جينية ذات وظائف معقّدة؟ وكيف يمكن للإنتقاء الطبيعي أن ينتج أنواعاً جديدة؟
في الحقيقة، فإن نسبة قليلة من الناس تعرف القوى التي تقف وراء عمليّة التطوّر وتؤدي إلى حدوثها. فهناك العديد من الآليات التي تسبب حدوث عمليّة التطوّر، ولعلّ الانتقاء الطبيعي هو من أهمّ هذه الآليات وأكثرها تأثيراً.
إنّ مفهوم "الانتقاء الطبيعي"، بحسب تعريفه، هو عكس مفهوم "الصدفة العشوائية".
بالنسبة لـ "الانتقاء الطبيعي"، فإن أي صفة تعطي أفضلية للبقاء على قيد الحياة، تمنح الكائن الحيّ الّذي يمتلكها قدرة أفضل على البقاء. وبالتّالي فإن هذا الكائن لديه قدرة أكبر على تمرير هذه الصّفة إلى أبنائه (الجيل القادم).
وهذه العمليّة التفضيلية ليست عشوائية بل هي أشبه بالفرز الدقيق للمورثات التي سوف تستمر وفقاً لفائدتها، وهي تستمر حتى يمتلك أغلب الأفراد الصفة ذات الأفضلية الأكبر. بالطبع، هناك العديد من الصفات شبه العشوائية تنتج من الطفرات المختلفة، وبدوره يقوم "الانتقاء الطبيعي" بإصلاح هذه العشوائية نوعاً ما، فالصفات الجيدة والمفيدة هي المرشّحة أكثر للمرور عبر عملية (الفرز) هذه وبالتالي للبقاء والانتشار.
ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الكائنات الموجودة الآن تمتلك بالضرورة "أفضل الصفات". كيف ذلك؟
قد يقول البعض بأن قانون "الانتقاء الطبيعي" لم يساعدنا للحصول على "أفضل الصفات" بحسب مقاييسنا، ولكن دعونا نفهم الأمر من وجهة نظر علميّة، فالصفة "الأفضل" بالنسبة للانتقاء الطبيعي قد لا تكون هي "الأفضل" بالنسبة لنا.
"البقاء للأصلح" هو المصطلح الذي نستخدمه عادةً لشرح مفهوم "الانتقاء الطبيعي"، لكن الوصف الأكثر دقّةً يشرح معادلات تفاضليّة للبقاء على قيد الحياة والتكاثر. فالأمر لا يتم عن طريق معرفة الأنواع "الأصلح" "والأقل صلاحية" للحياة، ولكن عن طريق تقدير معدّل تكاثر الكائن وقدرته على انتاج "الذرّية" أكثر من غيره تحت ظروف معينة.
على سبيل المثال: عندما تم تربية العديد من الطيور سريعة التكاثر وصغيرة المناقير، مع مجموعة أخرى من الطيور بطيئة التكاثر وكبيرة المناقير في جزيرة مليئة بالبذور الغذائية، كانت الطيور سريعة التكاثر أكثر قدرة على التحكّم بالموارد الغذائية، في حين كانت الطيور بطيئة التكاثر ذات المناقير الكبيرة أكثر قدرة على سحق الطعام. فالموضوع يتعلّق بالقدرة على التكيّف والبقاء، فقد حصلت الطيور على مناقير كبيرة لكنها أبطء في تكاثرها فقيمة صفة مناقير كبيرة أو السرعة في التكاثر تتوقف على مناسبة الصفة للظروف البيئية المحيطة.
ومن القضايا المطروحة من قبل المعارضين أيضاً بخصوص قانون "الانتقاء الطبيعي" هو قدرته على تفسير التطوّرات الصغيرة لدى الكائنات، لكنّه لا يفسّر التطورات على مستوى نشوء أنواع جديدة. ولنفهم هذه النقطة دعونا نرى ما يقوله علماء "الأحياء التطوّرية" في كيفية نشوء أنواع جديدة بمساعدة "الانتقاء الطبيعي".
على سبيل المثال، وفقاً لنموذج اسمه allopatry، وضعته Ernst Mayr من جامعة هارفرد. إذا تم عزل مجموعة من الأفراد خارج مجموعتهم الأصلية بحدود جغرافية، فإن هذه المجموعة قد تكون عرضة لضغوطات "انتقائية" مختلفة، وسوف تتراكم التغييرات لدى الأفراد المعزولين مع صعوبة تبادل المورثات بين هذه المجموعة والمجموعة الأساسية، وحين تصبح تلك التغييرات كبيرة بحيث أن المجموعة التي تتمتع بالصفات الجديدة لم تعد قادرة على التكاثر ضمن المجموعة الرئيسية، عندها قد تبدأ المجموعة الجديدة بالتكاثر بشكل معزول عن المجموعة الأصلية، ثم تشكّل نوع جديد خاص بها. إن "الانتقاء الطبيعي" هو من أكثر آليات التطوّر التي لقيت دراسةً واهتماماً. ولكن العلماء يكونون دائماً أمام احتمالاتٍ مفتوحة. فالعلماء لا زالوا يبحثون عن آليات وراثية غير عاديّة قد تؤدي إلى نشوء أنواع جديدة أو نشوء صفات أكثر تعقيداً لدى الأنواع المعروفة، قد تكون التغيرات فوق الوراثية أحدها وفق ما أوردنا في مقال سابق هنا
- إذا كانت نظريّة التطوّر صحيحة، كيف بقيت بعض الأنواع على حالها لمئات وحتى لآلاف السنين؟ وإذا كان البشر قد تطوّروا من القرود، فلماذا لا يزال هناك قرود موجودة حتى يومنا هذا؟
بالنّظر إلى الأنواع الموجودة لدينا، نستطيع أن نرى أن بعض الأنواع متشابهة بشكل ملحوظ مع أسلافها المشتركة. والتفكير بأن هذا يسبب مشكلةٍ لنظرية التطوّر هو سوء فهم أساسي وشائع للنظريّة. نظريّة التطوّر لا تقول بأن الأنواع جميعها سوف تتغيّر، أو أنّها "يجب" أن تتغيّر. فالتطوّر هو عمليّة التكيّف مع بيئة محدّدة، وإعطاء أكبر فرصة ممكنة للبقاء على قيد الحياة. فإذا لم يكن هناك تغييرات أساسية في الظروف والضغوط البيئية، فإنّنا لا نتوقع أن نرى تغييرات واختلافات كبيرة لدى الأنواع المختلفة. هناك العديد من المناطق التي حافظت على ظروف بيئية ثابتة تقريباً لفترات زمنية طويلة جداً، وبما أن الكائنات قد تكيّفت مع هذه الظروف البيئية وعاشت فيها لفترة طويلة فلماذا نتوقّع تغييرات لدى هذه الكائنات ما دامت الظروف المحيطة بها لم تتغيّر؟
وأمّا سؤال: لماذا لا زلنا نرى قروداً لم تتطوّر إلى الآن؟ فهو بالفعل يعكس الجهل الكبير حول نظريّة التطوّر، فالنظريّة أصلاً لا تقول بأن الإنسان قد تطوّر من القرد، وإنّما تقول بأن الإنسان والقرد كلاهما قد تطوّرا من سلف واحد مشترك. والخطأ الأكبر في هذا السؤال بأنّه يشبه السؤال " إذا كان الأمريكيون ذوو الأصول الأوربية قد قدموا من أوروبا، فكيف لا يزال يوجد اوروبيون؟" كما نرى فإن السؤال يفتقد المعرفة بنظريّة التطوّر، حيث تقول النظريّة بأن الأنواع الجديدة تنشأ عن طريق الانفصال عن النوع الأصلي، عندما يصبح هذه النوع معزولاً عن نوعه الأصلي وتتراكم فيه التغييرات الجينية حتى تصل الى حد الانفصال تماماً عن النوع الأصلي وتكوين نوع جديد. أمّا عن النوع الأصلي، فالاحتمالات بخصوص مصيره غير مرتبطة مع النوع الجديد، فالسلف المشترك قد يستمر بالنمو أو التطور أو قد ينقرض وهذا الأمر مستقلّ تماماً عن مصير النوع الجديد الذي نشأ وتفرّع منه.
المصادر