الطبيعة والعلوم البيئية > زراعة
حكاية القهوة، من الجذور حتى الفنجان
يستمتعُ معظمُنا كلّ يومٍ بكوبٍ منَ القهوة، ساخن ذي رائحة زكيّة مع موسيقى هادئة لنبدأ بها نهارنا بنشاط.
ولكننا حقيقةً لا ندري كم يستلزم الأمر من العناء حتى يصل هذه المشروب إلى منازلنا، ولا ندري أين يُزرَع ولا كيف ولا متى! ولعلّ بعضنا يتعجب، لم لا نزرعه في حقولنا وبساتين منازلنا..!
ما زال تاريخ اكتشاف القهوة أو ما يسمى "البن Coffee" ومصدرها الأساسي غير مؤكد. إذ تقول الأسطورة الأكثر شيوعاً بأنّ القهوة اكتُشفت عندما كان أحد رعاة الماعز في أثيوبيا في ولاية "هرر" (تحديداً في إقليم "كافا Kaffa") يرعى قطيعه، عندما لاحظ بأن بعضاً من القطيع كان يسرح بمرح ويقفز ويجري بشكل غريب بعد تناوله لثمار حمراء اللون من إحدى الأشجار، وأصابه الذهول والفضول ليذهب ويجرّب بنفسه هذه الثمار علّه يشعر بنفس التأثيرات فكان له ذلك. وسرعان ما انتشر خبر هذه الثمار بين الناس وانتشر استخدامها كذلك، ففي بادئ الأمر عُرِفَت القهوة كطعام وليس كمشروب.
ويقال أنها انتقلت إلى المنطقة العربية مع التجار في القرن السادس الميلادي وتحديداً إلى منطقة "مخا" اليمنية، واستُخدمت كمنشّط أثناء القيام بالواجبات الدينية والصلاة . وهنا تحولت زراعته من زراعة برية إلى غلّة مزروعة ذات قيمة إقتصادية . ومن اليمن انتقلت زراعته إلى الأماكن التي ينتج منها الآن وأصبحت له أهميته الاقتصادية والعالمية.(*)
تعد شجرة البن - القهوة - شجرة دائمة الخضرة يصل ارتفاعها في الظروف الطبيعية إذا تُركت دون تقليم أو تقزيم إلى ما بين (5.5 – 6)م وقد تصل إلى (12)م، والشائع هنا هو تقليم الشجرة كي تسهل عملية جني الثمار. تزهر هذه الشجرة في فصل الربيع ولأزهارها البيضاء رائحة عطرة، تعطي كل زهرة منها ثمرة مكونة من حبتين متقابلتين، وتكون ثمارها على شكل عناقيد من ثمار حمراء زاهية اللون تصبح داكنة عند نضجها.
ومن أجل نجاح زراعة هذا المحصول لا بدّ من توفر مجموعة من الشروط الطبيعية والبشرية في مناطق زراعته وبهذا يمكن القول أنّ محصول البن هو من الغلات المداريّة التي تُزرع على ارتفاعات متباينة - من السهول المنبسطة التي لا يزيد ارتفاعها عن 1800م عن مستوى سطح البحر. وأشجار البن حساسة بالنسبة لدرجات الحرارة المتطرفة العليا والدنيا، فهي لا تتحمل درجات حرارة تزيد عن (26) درجة مئوية في أشهر النمو الأولى، وإذا ازدادت درجات الحرارة إلى أكثر من 30 درجة فهي تضر بالنبات، كما أن درجات الحرارة الدنيا (دون الصفر المئوية) تقضي على أشجار البن قضاءً مبرماً فهي لا تتحمل الصقيع إطلاقاً وتؤثر فيها الثلوج والجفاف أيضاً. أما من حيث كميات المياه اللازمة فهي تتراوح ما بين (1250 – 2250) ملم سنوياً أو ما يعادلها من مياه الري.
وتُعدّ شجرة البن من الأشجار المحبة للجو الغائم الذي تكثر فيه السحب لتجنب أشعة الشمس القوية، وأنسب الترب لزراعة البن هي الترب الخصبة العميقة ذات الصرف الجيد والغنية بالمواد العضوية، حيث يتغلغل الجذر الرئيسي للنبات بشكل مستقيم في التربة، وكذلك الجذور الفرعية تغوص بشكل عميق فيها، ولذلك لابد لتركيب التربة من أن يسمح لهذه الجذور بالتوغل بسهولة، فلا تزرع شجرات البن في تربة ذات آفاق (طبقات) قاسية، وإن تمّ ذلك فيجب تفتيت هذه الآفاق. وتحتاج التربة إلى كميات لا بأس بها من الأسمدة البوتاسية والنتراتية لأن محصول البن من المحاصيل المجهِدة للتربة. والجدير بالذكر أن طبيعة المُناخ ونوع التربة تلعبان دوراً كبيراً في جودة المحصول. وأجود أنواع البن هو "البن العربي "Arabica يليه "البن الحبشي "Abyssinia ثم "بن روبستا Robusta" والذي ينتج معظمه في أفريقيا و"البن الليبيري Liberian وهو من أردأ الأنواع وينتج في غرب أفريقيا.
أما بالنسبة للظروف البشرية فإن نبات البنّ يحتاج إلى عناية بشرية فائقة متزامنة مع كل فترة من فترات نموه وحتى نضجه وإنتاجه (ما بين 3 – 5 سنوات)، فتحتاج شجرة البن إلى الخبرة الكافية بتربيتها قبل فترة الإثمار أما بعد الإثمار فإن الخبرة لا تُعد ضرورية بقدر كثرة ووفرة الأيدي العاملة، وتتطلب هذه الزراعة رؤوس أموال كافية لإقامة المدرجات على السفوح أو لشراء الأسمدة ومكافحة أمراض هذا النبات ولشراء المرشات.......الخ.
يحمل المنهج التقليدي المتّبع في زراعة أشجار البن في جعبته الكثير من المساوئ، فقبل الانتقال إلى المزارع كان المزارعون يعمدون إلى قطع الغابات وإحراقها بشكل كامل، وهذا المنهج سيء بلا شك حيث يترك التربة عارية وغير محمية من أشعة الشمس والأمطار الهاطلة والتي تعرّي هذه التربة، وبذلك تصبح التربة أقل خصوبة، حيث يمكن الاكتفاء بإزالة الأعشاب الضارة الطويلة والأشجار عديمة الفائدة، والإبقاء على الأشجار المورقة التي توفر الظل وبذلك فهي تحمي أشجار البن من أشعة الشمس . ويتم تغطية التربة حالاً إما بالنباتات التي تم إزالتها، أو ببذرها بمحصول واقي بهدف حماية التربة (عادةً ما يتم بذرها بالبقول). ومن الجيد أيضاً تخطيط صفوف في التربة. سابقاً، كانت الزراعة تتم بطريقة عشوائية فالمسافة الفاصلة بين الأشجار لم تكن متساوية، وعندما تكون الأشجار قريبة من بعضها فهي تنمو بشكل سيء، لذلك يجب تخطيط الأرض على شكل صفوف.
فيما يتعلق بخطوات زراعتها، تُزرع أشجار البن في بادئ الأمر كبذور في مشاتل خاصة، حيث تتلقى عناية فائقة خلال نصف السنة الأولى من زراعتها، بعدها تُنقَل الشتلات الصغيرة إلى مكان آخر لحضانتها، ويستمر بقاؤها في هذه الحضانة لفترة تزيد عن عام ونصف العام بحيث يصل طول الشجيرة إلى نحو (50) سم، تُنتقَى الشجيرات الجيدة من هذه المشاتل ويعاد زراعتها بغرسها في المزارع المهيأة لذلك، ويتم الحفر قبل الزراعة بحوالي شهرين، أما عن أبعاد الحفرة فهي (50) سم طول وعرض وعمق، حيث تزرع في صفوف بين الصف والآخر نحو (3.5)م، كما تبتعد الشجرة عن الأخرى المسافة ذاتها.
يبدأ موسم الجني في موسم الجفاف، ويختلف طول هذا الموسم عادةً باختلاف منطقة الزراعة، وغالباً ما يستمر ما بين (3 – 6) أشهر، وذلك لأن ثمار البن لا تنضج جميعها في وقت واحد، هذا في المناطق التي تتوافر في الكثير من الأيدي العاملة، أما بالنسبة للمزارع الواسعة حيث تُفتقد اليد العاملة الكثيرة فإن جني الثمار يتم دفعة واحدة. وفي هذه الحالة يتم جمع الثمار الناضجة وغير الناضجة الأمر الذي يؤدي إلى تدني الإنتاج وقلة الجودة.
وبعد جني الحبوب وجمعها يأتي دور الآلات الميكانيكية لنزع القشرة الخارجية، ثمّ تغسل الثمار وتُجفف إما آلياً بواسطة مجففة آلية أو تحت أشعة الشمس، وفي هذه الحالة يستمر التجفيف لأسبوعين أو أكثر. تقوم الآلات بعد ذلك بفرز حبات البن إلى أصناف ومراتب متنوعة تبعاً لحجمها وتماثل مظهرها الخارجي. تنتج كل شجرة من الثمار ما يكفي تقريباً لإعداد (0.68 – 0.45)كغ من القهوة المحمصة كل فصل.
تلعب العوامل الجغرافية وخاصة المناخية منها الدور الأكبر في انتشار زراعة البن وتوزيعه الجغرافي، حيث يحتاج نبات البن إلى كميات كبيرة من الماء وإلى هواء رطب بشكل دائم ودرجة حرارة عالية، ولذلك فإن نطاق زراعة البن ينتشر في المناطق المدارية والاستوائية - الحارة الرطبة - من أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا والتي تمتد تقريباً ما بين خطي عرض (28) شمالاً و(30) جنوباً، ويعرف هذا النطاق بحزام القهوة.
تُسهم أميركا الجنوبية والوسطى بالنصيب الأكبر من إنتاج هذا المحصول تليهما آسيا ثم أفريقيا ثم أميركا الشمالية وأوقيانوسيا بنسبة ضئيلة، ويزرع البن في أكثر من (55) دولة حول العالم، يأتي في مقدمتها البرازيل وكولومبيا واندونيسيا وفيتنام وساحل العاج والمكسيك..
أبرز دول حزام القهوة
(*): لمحصول البن ثقل اقتصادي كبير بالنسبة لعشرات الدول وملايين الناس، وهي السلعة الطبيعة الثانية من حيث قيمتها النقدية بعد النفط.
المصادر:
خريطة تفصيلية لحزام القهوة:
صور لمشاتل ومزارع البن: