الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد
اصنع عملتك بنفسك
عندما نتحدث عن العملات المكملة تذهب أذهان معظم الناس إلى العملة الالكترونية BitCoin صحيح أنها تعتبر واحدة من العملات المكملة، لكن الواقع أن هناك أكثر من 5000 تجربة ناجحة لإنشاء عملة مساندة ومكملة للعملة الوطنية السائدة. عندما نتحدث عن العملة المكملة فإننا لا نقصد التخلي عن العملة الوطنية المدعومة بقوة القانون، لكننا نتحدث عن شكل جديد من العملات التي تدعم الاقتصاد وتقلل من آثار الأزمات الاقتصادية بل تكاد تجعلها معدومة (Martignoni & FleXibles).
فكرة العملة المكملة ببساطة، هي أن يقوم أفراد المجتمع بتبادل الخدمات والمنتجات فيما بينهم مقابل خدمات ومنتجات أخرى في المقابل، قد يقول البعض: هذا سيعيدنا إلى نظام المقايضة!! نعم صحيح الفكرة تقوم على نظام المقايضة ولكن مع إزالة كافة العيوب التي ينطوي عليها نظام المقايضة، فالعملة المكملة مثلها مثل العملة الورقية القانونية التي بين أيدينا لكنها أوجدت لسببين: أولا لتحل عيوب نظام المقايضة، ثانيا لتحل المشاكل الناجمة عن النقود الورقية التي بين أيدينا. الفرق بين العملة الورقية القانونية والعملة المكملة أن الأولى مدعومة بقوة القانون (لا يمكن اغفال عنصر الثقة الداعم للعملة الورقية، إذ لو ذهبت ثقة الناس بالعملة التي يحملونها وانتشر رفض العملة في تعاملاتهم لسقطت هذه العملة وذهبت بلا رجعة) كما أن العملة الورقية هي العملة التي تقبلها الحكومة لدفع الضرائب والتعاملات الحكومية، أما العملة المكملة فهي عملة مدعومة بثقة حملتها بعضهم ببعض، ولا تقبلها الحكومة كأداة لدفع الضرائب.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما المشاكل التي تحلها العملة المكملة؟ نعتقد أن عرضنا لتجارب بعض الدول التي أُستخدمت فيها العملة المكملة سيكون كفيلا بالإجابة على هذا السؤال.
تجربة بلدة ورغل النمساوية 1932-1933:
في عام 1932، في خضم فترة الكساد العظيم، نجحت بلدة صغيرة تسمى "ورغل" بالخروج من أزمة الكساد الخانقة في البلاد، وذلك من خلال تطبيق فكرة Silvio Gesell وهو أحد اقتصاديي القرن العشرين، حيث تقوم فكرته على جعل العملة أداة للدفع، وفرض رسوم على حمل العملة (ادخارها) وذلك بغرض تحفيز الاقتصاد على النمو من خلال زيادة الإنفاق.
في وقت متأخر من العام 1932 كان يسكن بلدة ورغل النمساوية ما يقدر بــ 4500 نسمة، بينهم 1500 شخص عاطل عن العمل، وكان يشغل منصب العمدة في تلك الفترة شخص اسمه Michael Untergugenbergen. لم تكن مسؤوليات المحافظ سهلة في تلك الحقبة من الزمن، إذ كان عليه الإشراف على مشاريع تطويرية في البلدة كرصف شوارع البلدة، وتطوير شبكة توزيع المياه، المشكلة التي واجهت المحافظ هو عدم وجود التمويل الكافي لاتمام هذه المشاريع حيث كان المبلغ المتاح أربعين ألف شلن نمساوي فقط. قام عمدة البلدة بوضع هذا المبلغ في حساب توفير خاص بالبلدة، تم التعامل مع هذه الوديعة على أنها ضمان لقيمة العملة المكملة التي قام العمدة بإصدارها لاحقا ليتم تداولها في البلدة. الميزة الهامة في هذه العملة هو أنه يتوجب على حاملها الحصول على ختم يثبت صلاحية هذه العملة كل شهر، وفي كل مرة يضع الختم عليه دفع 1% من قيمة هذه العملة، يعني لو احتفظ أحدهم بورقة من هذه العملة لمدة خمسة شهور فإنه يتكبد تكلفة وقدرها 5% من قيمتها، أدى هذا إلى تشجيع الناس على الإنفاق وعدم الاحتفاظ بالعملة لفترة طويلة، مما أدى إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات. كانت تكلفة الاحتفاظ بالعملة الـ 1% تنفق على إطعام 200 عائلة فقيرة تسكن البلدة. ونتيجة لاستخدام هذه العملة ارتفعت قيمة الأصول الانتاجية بنسبة 219%، لم يقم العمدة باتمام المشاريع التطويرية وحسب، بل بدأ بتطوير مشاريع عقارية وإسكانية في البلدة، كما قام بانشاء جسور، ومسارات خاصة برياضة التزلج والقفز على الثلج. لكن هذا الإزدهار لم يدم طويلا، إذ بعدما انتشرت قصة هذه البلدة في باقي البلدات النمساوية، بدأت تلك البلدات بالتفكير بتطبيق الفكرة ذاتها مما جعل البنك المركزي يتنبه لخطورة الموقف الذي قد يتعرض له في حالة قيام تلك البلدات باصدار عملات مشابهة، فأصدر قانونا يؤكد فيه أن إصدار النقود هو حق يتمتع به البنك المركزي فقط ولا يحق لغيره القيام بذلك، وأن إصدار أي نوع من تلك العملات يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون. بمجرد إصدار هذا القانون وتطبيقه، ارتفع معدل البطالة مجددا في مدينة وورغل النمساوية ليصل إلى 30% (Bernard, the future of money, 2013) .
تجربة مدينة كوريتيبا البرازيلية 1971:
تقع مدينة كوريتيبا جنوب شرق ولاية بارانا البرازيلية، وهي مدينة مكتظة بالسكان حيث ارتفع عدد سكانها من 120 الف نسمة عام 1942 إلى 2.3 مليون نسمة عام 1997. كان معظم سكانها يعيشون في أحياء عشوائية، وكانت بيوتهم مبينة من الصفيح المموج الرخيص وذلك نظرا لحالة الفقر المدقع التي يعيشونها. لم تكن مشكلة المدينة الفقر فقط، بل كانت مشكلتها تراكم النفايات والقاذورات في كل مكان مما أدى لانتشار الأمراض بين سكانها. كان تراكم النفايات في كل مكان واكتظاظ المدينة بالسكان، وشح الموارد المالية من أكبر التحديات التي واجهت Jaime Lerner الذي أصبح عمدة للمدينة عام 1971. قد يتساءل القراء، لماذا لا يتم إزالة النفايات بواسطة السيارات المخصصة لهذا الغرض؟؟ في الواقع كانت شوارع تلك الأحياء ضيقة جدا، وممتلئة بالنفايات لدرجة أن دخول السيارات إلى تلك المناطق كان أمرا شبه مستحيل. لم يكن لدى العمدة الجديد الموارد الكافية لتوسيع الشوارع مثلا ولم يكن بالإمكان إصدار سندات مالية لتمويل تلك الحلول التقليدية أو فرض المزيد من الضرائب على السكان، بل كان لا بد من إيجاد بدائل وحلول أخرى للمشاكل التي تعاني منها المدينة. فكر العمدة الجديد طويلا، ثم رأى أن المدينة تمتاز وكباقي المدن البرازيلية بخصوبة أراضيها وصلاحيتها للزراعة، كما أن المدينة تمتلك نظام مواصلات عامة لا يستخدمه السكان نظرا لفقرهم، وهنا قرر Jaime Lerner استخدام هذه الموارد لحل المشكلة التي تعاني منها هذه المدينة. قامت بلدية المدينة بوضع صناديق معدنية كبيرة على مداخل تلك الأحياء الفقيرة، وتم الإعلان عن أن كل من يضع كيس نفايات مفروز في تلك الصناديق المعدنية سيحصل على تذكرة لركوب الباص. ومن يقوم بجمع الأوراق والكرتون يحصل على كمية من الفواكه والخضراوات الطازجة. ليس هذا فقط بل تم إشراك طلاب المدراس بعملية جمع النفايات حيث يتم اعطاء دفاتر وأدوات قرطاسية لمن يشارك في هذه المهمة. بعد مدة من الزمن بدأت الحياة تدب في المدينة، وصارت تذاكر الباص تقبل بدلا عن النقود في المتاجر المحلية مقابل الحصول على اللوازم المنزلية اليومية. خلال ثلاث سنوات أكثر من 200 طن من النفايات تم جمعها من خلال طلاب المدارس مقابل الحصول على الأدوات المدرسية، كما أن إعادة تدوير الورق ساعد في منع قطع ما يقارب 1200 شجرة يوميا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل بدأت مشاريع لترميم المدينة وتحسين معالمها، ومشاريع أخرى لزيادة المساحة الخضراء، كل هذه المشاريع وغيرها تمت بدون أن يكون هناك أي أعباء على البلدية، كما أنه لم يكن هناك أي مبرر لإصدار سندات مالية، أو الإقتراض من المؤسسات الدولية كالبنك الدولي، أو صندوق النقد الدولي. كانت نتيجة استخدام المدينة للعملة المكملة نموا كبيرا في الناتج المحلي الإجمالي أكثر بـ 48% من الناتج المحلي للبرازيل كلها، كما أن معدل دخل السكان صار ثلاثة أضعاف دخل سكان المناطق البرازيلية الأخرى. في عام 1990 قامت الأمم المتحدة بمنح مدينة كوريتيبا وسام أكثر المدن صداقة للبيئة (Bernard & Stefan, 2010).
تجربة اليابان 1995:
في مجتمعات ارتفعت فيها نسبة كبار السن تزداد الحاجة لايجاد مؤسسات تهتم بأمورهم الشخصية الخاصة سواء على الصعيد الصحي أو حتى على صعيد حياتهم اليومية، أما في اليابان التي ارتفعت فيها نسبة الذين تجاوزت أعمارهم الـ 65 إلى 30 مليون نسمة سنة 2010، فلا حاجة لمؤسسات كهذه إذ أن العملة التي يطلق عليها اليابانيون " Fureai Kippu" وتعني: "تذكرة الرعاية الإجتماعية" ساعدت كثيرا في هذا المجال. بدأت هذه العملة بالانتشار في اليابان منذ العام 1995، وهي عملة تعاونية تعتمد على الوقت الذي يمضيه الشخص في مساعدة كبار السن. يتم إعطاء هذه التذاكر (التي تمثل العملة المكملة) للأفراد الذين يساعدون كبار السن في المناطق التي لا تصل إليها الرعاية الصحية اليابانية، سواء من خلال تحضير طعامهم، أو مساعدتهم على الاستحمام، أو من خلال رعايتهم طبيا، وذلك حتى يتمكن هؤلاء المسنون من البقاء في منازلهم بدلا من الذهاب إلى مأوى العجزة حيث يشعرون بالملل والضجر. تعتبر التذاكر التي يحصل عليها الشخص الذي يساعد كبار السن بمثابة رصيد له يستطيع إعطاءه لأحد أفراد عائلته كي يستفيد منه (كأن يرسله لوالده المريض الذي يعيش في منطقة بعيدة عنه) أو قد يحتفظ برصيده حتى تتم خدمته مستقبلا عندما يكبر في السن. حاليا يوجد ما يقارب 374 مؤسسة تقوم بتنظيم إصدار هذه التذاكر. يعتبر استخدام هذه التذاكر اتفاقا بين أفراد المجتمع على استخدام عملة مختلفة عن العملة الوطنية كوسيلة للدفع لهذه الخدمات الشخصية التي يقدمها أفراد المجتمع بعضهم لبعض، إن هذا النظام لا يحسن فقط من حياة هؤلاء المسنين بل يجعل الحياة مليئة بالتعاون من غير خلق ضغوطات على ميزانية الحكومة، أو اللجوء إلى شركات التأمين ذات التكاليف الباهظة، وحتى بدون استخدام العملة الوطنية (Gratisbasis, 2013).
ما هي فوائد العملة المكملة؟
الآن وبعد أن اطلعنا على ثلاثة تجارب مختلفة لهذه العملة، يا ترى ماهي الفوائد التي جنتها تلك المجتمعات التي استخدمت هذا النوع من العملات؟ هناك العديد من الفوائد التي يمكن ذكرها أهمها:
1- العملة المكملة تساعد كثيرا في حالات الكساد الاقتصادي، ففي حالة عدم توافر السيولة اللازمة لاتمام عمليات التبادل التجاري، يمكن الاعتماد على العملات المكملة بدلا من أخذ القروض البنكية التي ترهق كاهل المقترضين بالفوائد المرتفعة، إذ أنه ليس شرطا أن يكون هناك أوراق نقدية قانونية حتى تسير حياتنا، فقد تكون الساعة عملة، وقد تكون الخدمة عملة، وقد يكون الكوبون الذي يخول حاملة الحصول على رغيف خبز عملة. هناك الكثير من الطرق التي يمكننا من خلالها صناعة عملة خاصة بنا للتغلب على الظروف الاقتصادية الصعبة المحيطة.
2- العملة المكملة هي عملة لا يتم تداولها إلا بين مجموعة معينة من الأعضاء، في حي معين، أو مدينة معينة فقط، لهذا فإنه لا يمكن استخدامها لعقد صفقات دولية، مما يعني بقاءها في الاقتصاد المحلي، مما يزيد من مستوى الانتاجية العام، حيث يزداد تبادل السلع والخدمات بين أفراد المجتمع وذلك لتوافر السيولة المطلوبة.
3- بعض العملات المكملة تعتبر مخزنا جيدا للقيمة مثل العملة المستخدمة في اليابان " Fureai Kippu" التي يمكن لحاملها الاحتفاظ بها واستخدامها في أي وقت شاء، حتى أن بإمكانه إعطاءها لغيره حتى يستفيد منها من غير أن يخسر شيئا من قيمتها مع مرور الزمن.
4- العملة المكملة تؤدي إلى حل مشكلة البطالة، فمع توفر السيولة النقدية اللازمة لدفع أجور الموظفين، وازدهار حركة البيع والشراء في السوق، كل هذا يزيد من توافر فرص العمل لأفراد المجتمع.
5- العملة المكملة تحفظ السيادة الوطنية، إذ لا حاجة للاقتراض من المؤسسات الدولية كالبنك الدولي، أو مؤسسة النقد الدولي اللتان تفرضان شروطهما على الدول المقترضة، فتصبح تلك الدول خاضعة لتلك المؤسسات.
ختاماً، لا يتوقف الأمر عند ما تم ذكره من الفوائد، إذ أن هناك إيجابيات أخرى عديدة لهذا النوع من العملات، لكن النماذج المطبقة اليوم هي نماذج طبقت في الدول الغربية، ترى متى سنرى النسخة العربية منها؟ وما هي العوائق التي قد تقف عائقا أمام مثل هذه المبادرات الإجتماعية؟
Bibliography
Bernard, L. (2013). the future of money. London: Random House.
Bernard, L., & Stefan, B. (2010). The Story of Curitiba in Brazil. Retrieved from Lietaer: هنا
Gratisbasis. (2013). Fureai Kippu – Compassion is the new currency. Retrieved from Gratisbasis.com: هنا
Martignoni, J., & FleXibles, Z. (n.d.). A NEW APPROACH TO A TYPOLOGY OF COMPLEMENTARY CURRENCIES. International Journal of Community Currency Research .
مصدر الصورة: هنا