الطب > مقالات طبية
التحنيط.. رحلة إلى الخلود
المومياوات (Mummies) هو مصطلح يُستخدم لوصف الأجسام المحفوظة طبيعيًا أو اصطناعيًا. يستخدم هذا المصطلح تقليديًا لوصف جثث المصريين القدماء حيث كانت تجفَّف أنسجتُها لمنع عملية التفسّخ والتعفن.
اشتقت هذه الكلمة من الكلمة الفارسية أو العربية موميا أو (mumiya)، والتي تعني "bitumen" أي القار، وهي مادة سوداء شبيهة بالإسفلت كانت تَرشُح من أجساد المومياوات في بلاد فارس، واعتُقد أن لها خصائص طبية وأن لها القدرة على علاج الكثير من الأمراض.
عملية التحنيط (Mummification):
أساليب تحنيط الموتى (embalming) ومعالجة الأجسام الميتة التي اتبعها المصريون القدماء لإزالة الرطوبة من الجسد بحيث لا يبقى إلا جسدٌ جاف لا يتحلل بسهولة؛ تسمّى بعملية التحنيط. وهي عملية طبيعية في الأصل، كانت تحدث في مصر وفي مناطق أخرى من العالم مثل أمريكا الجنوبية والمكسيك وجبال الألب وآسيا الوسطى وجزر الكناري وجزر ألوشيان وألاسكا، حيث ساعد جفاف الرمال التي كان يدفن فيها الجسم، إلى جانب حرارة أو برودة المناخ، أو عدم وجود الهواء في مكان الدفن (القبر) على الإنتاج غير المقصود أو "الطبيعي" للمومياوات. وهو ما يدعى بالتحنيط الطبيعي.
كما حدث أيضاً نوع آخر من التحنيط الطبيعي في شمال غرب أوروبا حيث تم الحفاظ على الأجسام عندما دفنت في مستنقعات الخث (peat bogs) وهي أراضٍ اسفنجية رطبة تتكون من نباتات متحللة، وهي غير صالحة للزراعة إلا أنه يمكن استقطاعُها وتجفيفُها واستخدامها كوقود.
في بعض المناطق، وخاصة بعد اكتشاف دور العوامل البيئية في عملية التحنيط الطبيعية، أصبح يُلجأ إلى هذه العوامل بشكل متعمّد وليس بمحض الصدفة كما في السابق. فالشمس والنار ومصادر الحرارة الأخرى كانت تُستخدم لتجفيف الجثث، وفي أوقات أخرى كان يُستخدم الدخان في ذلك. كما كانت تستخدم المواد الطبيعية كالعشب في إحاطة الجثث وملء تجاويفها، وفي إحكام إغلاق مكان الدفن وبهذا يعزل الهواء وبالتالي لا تتحلل الجثث.
كيف حنّط المصريون موتاهم؟
ما نعرفه عن التحنيط المصري يأتي من عدد من المصادر، بما في ذلك الأدلة الأثرية التي تقدمها المومياوات أنفسها، ودراسات علم الأمراض القديمة أو "الباليوباثولوجي paleopathology” للجثث، والرسومات والمنحوتات الموجودة على الأضرحة والتي تصور بعضًا من مراحل عملية التحنيط ، إضافة إلى المراجع النصية لروايات العصور المصرية والقديمة الأخرى.
ومع ذلك، لا توجد كتابات أو روايات مصرية معروفة لعملية التحنيط من الناحية التقنية، فلا لوحات أو نقوش توفر سجلاً كاملاً عنها باستثناء بعض النقوش الموجودة على جدران أضرحة Thoy وَ Amenemope ، والرسوم الموجودة على التوابيت وبعض الجِرار الكانوبية (canopic jars) - التي كانت تستخدم لحفظ أحشاء الأموات بعد التحنيط من أجل الحياة الأخرى - والتي تُظهر بعضًا من مراحل عملية التحنيط. على الرغم من هذا، تُنسب أقدم المَروِيات - الكاملة نسبيًا - لعملية التحنيط إلى المؤرخَين اليونانيين (هيرودوت Herodotus من القرن الخامس قبل الميلاد وديودورس Diodorus من القرن الأول قبل الميلاد).
يوجد أيضًا في الأدب المصري بعض المصادر التي تُشير إلى عملية التحنيط والطقوس الدينية المرتبطة بها. ففي أحد النصوص المسماة ب "طقوس التحنيط" ذُكرت مجموعةٌ من الإرشادات للأشخاص الذين يؤدون الطقوس المصاحبة لعملية التحنيط وكذلك مجموعة من الصلوات والتعاويذ التالية لكل شعيرة منها.
وإضافةً إلى النصوص والمراجع التقليدية، فقد أُجريت الكثير من الأبحاث العلمية واستخدمت العديد من التقنيات الحديثة للتعرف أكثر على عملية التحنيط؛ منها ما أُجري على رفات المومياوات حيث قَدمت لنا معلوماتٍ جديدةً حول عملية التحنيط نفسها، إضافة إلى الأمراض والأنظمة الغذائية التي كانت متبعة، وكذلك ظروف المعيشة وحتى العلاقات الأسرية الخاصة بها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، استُخدم المجهر الإلكتروني الماسح للتعرف على حشرة كانت تهاجم المومياوات، كما وفرت فحوصات الأنسجة دلائل على مدى نجاح أو فشل عملية التحنيط. وساعد استخدام تقنيات الفصل الكروماتوغرافي (فصل المواد عن بعضها ضمن محلول أو مزيج ما) في عزل وتمييز المواد التي جرى استخدامها في ضمادات المومياوات. كما استخدمت أيضاً تقنيات التصوير الشعاعي والتصوير المقطعي المحوسب (CT scan)، وقدمت دراسات أسنان المومياوات أدلةً هامةً عن العمر والصحة والنظام الغذائي وصحة الفم والأسنان والأمراض.
ساهمت أيضاً تقنية التنظير(Endoscopy) في إلغاء الحاجة إلى تشريح المومياوات، لأن هذه التقنية تسمح للباحثين بالحصول على أدلة مباشرة حول أساليب التحنيط والحصول على عينات من الأنسجة لمزيد من الدراسة دون إتلاف المومياء.
من الذين كانت تُجرى لهم عملية التحنيط؟
عادةً كان فراعنة مصر والأشخاص التابعون لطبقة النبلاء يُحنَّطون بعد الموت ويُدفنون في مقابر خاصة بهم، كما كانت تُجرى في بعض الأحيان لعامة الشعب على الرغم من ارتفاع تكلفتها وعدم قدرة الأغلبية على تحمّلها.
ولأسباب دينية، كانت تجرى عملية التحنيط لبعض الحيوانات، مثل الثيران المقدسة وكانت تدفن في مقابر خاصة بها، أيضًا قردة البابون والقطط والطيور والتماسيح كانت تحنط لما لها من أهمية دينية كبيرة.
خطوات عملية التحنيط:
تمرعملية التحنيط بمرحلتين أساسيتين:
1- تحنيط الجسم -embalming-
2- لف الجسم ودفنه -wrapping and burying-
مرحلة تحنيط الجسم:
أولاً، يتم أخذ الجثة إلى خيمة تعرف باسم "ibu" أو "مكان التنقية والتطهير". هناك يقوم المحنطون بغسل الجسد باستخدام نبيذ النخيل ذي الرائحة العطرة ومن ثم شطفه بماءٍ مأخوذٍ من نهر النيل.
ثانيًا، يقوم المحنِّط بعمل شق في الجانب الأيسر من الجسم ويزيل الأعضاء الداخلية. من المهم إزالتها لأن هذه الأعضاء هي أول ما يتحلل من الجسم بعد الموت.
بعد ذلك يُغسل الكبد والرئتان والمعدة والأمعاء وتوضع في مادة النطرون* التي تعمل على تجفيفها جيدًا. عادة لا يتم إخراج القلب من الجسد لاعتقادهم أنه يُعتبر مركز الذكاء والإحساس عند الإنسان وسيحتاج إليه في الحياة الأخرى. كما يُستخدم خطاف طويلٌ معقوفٌ لتدمير الدماغ وإخراجه عن طريق الأنف.
في الأساليب القديمة للتحنيط، كانوا يقومون بحفظ الأعضاء الداخلية داخل صناديق خاصة أو جِرار تدعى الجرار الكانوبية -أشير إليها سابقًا - وتُدفن مع المومياء، ولكن بعد سنوات عديدة من ممارسة التحنيط تغيرت الأساليب قليلاً وأصبحت الأعضاء تُعاد إلى داخل الجسم بعد أن يتم تجفيفها بمادة النطرون.
ثالثاً، يقوم المحنِّطون بتجفيف الجسم تمامًا وإزالة الرطوبة منه عن طريق تغطيته بمادة النطرون، وحشوه أيضًا بأكياس تحتوي على المادة نفسها.
بعد أن يجف الجسم تمامًا، يقوم المحنطون برفق بإزالة الأكياس الداخلية (التي تحتوي على النطرون) ثم يغسلون الجسم لإزالة مادة النطرون عنه.
النتيجة الآن جسدٌ بشريٌ مجفف جدًا، ولكي يبدو شكل المومياء أقرب ما يكون إلى شكل الأحياء، يملأ المحنطون الأماكن الغائرة من الجسم بالكتان وغيرها من المواد ويضعون عيونًا غير حقيقية.
مرحلة لف الجسم ودفنه:
تحتاج كل مومياء إلى مئات الياردات من شرائط الكتان .
أولاً، يتم لف الرأس والرقبة بشرائط من قماش الكتان، ثم تُلف أصابع اليدين والقدمين بشكل فردي وتلفُّ الذراعان والساقان بشكل منفصل أيضًا. يضع المحنطون التمائم بين كل طبقة من اللفائف لحماية الجسم خلال رحلته إلى العالم الآخر.
كما يقرأ الكاهن التعاويذ بصوت عالٍ خلال عملية اللف، حيث يُعتقد أن هذه التعاويذ تُساعد في طرد الأرواح الشريرة وتُساعد الميت في رحلته إلى العالم الآخر.
والآن تُربط الذراعان والساقان معًا، ثم تُلف أوراق البردي** التي كُتب فيها بعض من التعاويذ المأخوذة من كتاب الأموات*** وتوضع بين اليدين الملفوفتين.
بعد ذلك يُغلف الجسم بمزيد من الأربطة، وفي كل طبقة تُدهن الضمادات بالصمغ لكي تلتصق الطبقات ببعضها.
ثم تُلف قطعة من القماش حول الجسم ويرسم عليها صورة للإله أوزوريس (Osiris).
وأخيرًا، تلف قطعة قماش كبيرة حول المومياء بأكملها وتُربط بشرائط من الكتان تمتد من أعلى المومياء إلى أسفلها وحول المنتصف. ثم يوضع لوحٌ من الخشب على رأس المومياء قبل أن يتم إنزالها داخل التابوت الأول الذي يوضع بعد ذلك داخل تابوت ثانٍ. ثم تقام بعد ذلك الجنازة للمتوفى وتنعي عائلته وفاتَه.
تُجرى خلال الجنازة شعيرةٌ تُسمى "فتح الفم “Opening of the Mouthلكي يسمح للميت أن يأكل ويشرب مرة أخرى.
بعد ذلك توضع المومياء وتابوتها داخل تابوتٍ حجريٍ كبير داخل القبر، الذي جُهِّز مسبقًا - قبل وفاة الشخص بوقت طويل - بالأثاث والملابس والأشياء الثمينة والطعام والشراب، كل ذلك من أجل الميت.
قد توحي هذه الممارسات المرتبطة بالدفن أن التفكير بالموت كان الشغل الشاغل للمصريين، ولكن على العكس تمامًا، فقد بدؤوا بالتخطيط لموتهم في وقت مبكر بسبب حبهم للحياة؛ فباعتقادهم لا حياة أفضل من التي يعيشونها في وقتهم الحاضر، لذا يحرصون على استمرارها حتى بعد الموت.
قد تسألون أنفسكم، لماذا يفعلون كل هذا؟ لماذا يحفظون الأجسام؟
يعتقد المصريون أن المومياء هي موطن الروح والنفس، فإذا دُمّر الجسد، ستُفقَد الروح.
الحاشية:
*النطرون: مادة ملحية لها خصائص تجفيفية.
**أوراق البردي: ورق قديم مصنوع من نبات البردي، كان المصريون القدماء يستخدمونه للكتابة والرسم.
*** كتاب الأموات: هو الاسم المعروف للكتاب الذي يحتوي على النصوص الجنائزية الفرعونية والتعاويذ، ويصف التصور المصري للحياة بعد الموت.
المصادر:
مصادر الصور: