الموسيقا > الآلات الموسيقية
تاريخ الغيتار الكلاسيكي... الجزء الأول.
تتمتع آلة الجيتار المعروفة حاليّاً والمحبوبة جداً بتاريخ حافل، فقد مرت بمراحل تطور عديدة ومليئة بالتغييرات المختلفة عبر العصور.
ينتمي الجيتار إلى عائلة الآلات الوترية بالنقر، هذه العائلة التي تضم الماندولين والبانجو والعود العربي والسيتار الهندي وغيرها الكثير من الآلات المنتشرة في مختلف الثقافات حول العالم.
إن التطور الحاصل لهذه الآلة عن عدة أشكال سابقة وفي عدة مناطق من أوروبا (وخاصة إسبانيا) أوصلها إلى درجة من العالمية بمكان بحيث أصبح من غير الممكن أن نستثنيها من أية ثقافة إنسانية، ونادراً ما نجد نوعاً أو نمطاً موسيقياً في العالم لا تدخل فيه آلة الجيتار.
الأجداد الأوائل:
يفترض أن الشكل الأساسي لآلات النقر الوترية كان قد استخدم منذ ما يقارب ٥٠٠٠ عام من الآن، حيث تُظهر الرسومات الجدارية والآثار الباقية لبلاد ما بين النهرين في الثقافات البابلية وكذلك المصرية أشخاصاً يحملون آلةً وتريًة شبيهة بجيتارنا المعروف اليوم، حيث تشترك معها بوجود البطن أو الصندوق المصوت، والمتصل مع رقبة تخرج منه، ولكن يبقى موضوع أين ومتى وُجد أسلاف آلة الجيتار بشكل دقيق موضوعاً شائكاً لا يمكن البت فيه في يومنا هذا.
في البحث عن الأصل الغامض لآلة الجيتار نجد أن هناك تقارباً لغوياً كبيراً بين اسم الجيتار واسم آلة قيثارة (Kithara) أو تسيتار (Zither) ،وهي أحد الآلات القديمة للحضارة اليونانية، والتي تنتمي إلى عائلة الآلات الوترية العظمية (المصنوعة من العظام)، مع صندوق مصوت ذي شكل أسطواني يتفرع منه ذراعان جانبيان (أي رقبة مزدوجة) مربوطان ببعضهما بقطعة من الخشب بشكل قطري.
كانت تستعمل هذه الآلة بشكل رئيسي من قبل طبقة العوام في المجتمع اليوناني (أي من ليسوا من علية القوم)، ومن بينهم طبقة الجنود الذين نقلوها معهم خلال الحرب البونية الرومانية بين عامي ٢٤٦ و ١٤٦ ق.م إلى إسبانيا، وهناك انفصل اسم القيثارة عن معناه اليوناني، وابتداءً من تلك الفترة لم يعد متعلقاً بنوع الآلات العظمية التاريخية، ولعل هذه القيثارة القديمة هي التي تمثل الجد الأكبر لمختلف الآلات الوترية المستخدمة في عصرنا الحاضر.
إن تطور الموسيقى في العصور المسيحية (أي عصور ما بعد الميلاد)، وخاصة إدخال التعددية في الأصوات إلى الموسيقى(Polyphony)، تطلب تطوراً مماثلاً للآلات المستعملة من حيث طرق العزف والتصنيع، فالجسم المصوت أو الصندوق أصبح عبارة عن مجموعة من الصفائح الخشبية الملتصقة ببعضها، كما تم شد الأوتار بحيث تكون منحنية للخارج لتتمكن من المحافظة على قوة الشد المتولدة من خلال الرقبة المتصلة بجسم الآلة، وإضافة إلى ذلك لم يعد الجسم المصوت على شكل بطن، بل أصبح مستوياً أو مسطحاً، كما هو الحال في الجيتار المعروف لدينا اليوم.
مثل هذه الآلات كانت معروفة في العصور الوسطى ومنتشرة بشكل عام في مختلف أنحاء أوروبا، وبشكل خاص في إسبانيا التي كانت واقعة تحت حكم العرب الذين جلبوا معهم من شمال إفريقيا آلة العود العربي ببطنها البيضوي والتي كانت متطورة نوعاً ما، مما جعلها تلقى هناك انتشاراً واسعاً.
استفاد صناع الجيتار الإسبان من هيكلة العود العربي في تطوير آلاتهم، وقاموا بإدخال عدة تفاصيل إضافية عليها، وكانت هذه التفاصيل قليلة وصغيرة نسبياً إلا أنها مهمة جداً، وساهمت بإعطاء تأثير كبير على آلاتهم اللاحقة.
إحدى هذه التفاصيل مثلاً كان إدخال تقنية المفاتيح على طرف الرقبة، والتي تفيد في الحفاظ على قوة شد الأوتار، وبالتالي بشكل كبير على دقة دوزان الآلة.
من آلة العود العربي تطورت تدريجياً آلة اسمها الفيهويلا (Vihuela) في إسبانيا، والتي كانت تصنع على نفس مبدأ تصنيع آلة العود العربية وبنفس ترتيب الأوتار، ولكن مع فارق بسيط وهو جسمها المستوي (أي مسطح وليس بطني كما هو العود). وهي أول آلة على الإطلاق تحوي أربعة أوتار، لكن مع قدوم عصر النضهة انقرضت آلة الفيهويلا هذه لعدم قدرتها على مجابهة التطور في التأليف الموسيقي الحاصل في ذاك العصر، حيث أن احتياجات الموسيقى الجديدة أدت إلى تطور حتمي ولا بد منه لهذه الآلة، عبر عدة طرق ومراحل أوصلتها إلى شكل جديد وآلة جديدة، وأطلق عليها اسم عود عصر النهضة (Lute) أو جيتار الحفلات (Konzertgitarre)، حيث كانت تحوي ستة أوتار أو أكثر مما جعل تقنية العزف عليها أصعب.
للاستماع إلى هذه الآلة إليكم تسجيل جميل لعمل اسمه “In Darkness let me dwell“ للمؤلف John Dowland:
مع دخول عصر الباروك في القرن السابع عشر تطورت هذه الآلة بشكل ملحوظ في إسبانيا، وخصوصاً على يد جاسبار سانز (Gaspar Sanz) الذي كتب منهجه التدريسي في العزف على هذه الآلة وإسمه “instrucción de Música sobre la Guitarra Española”. وهنا تم تحديد عدد أوتار اللوت هذا بخمسة أوتار مزدوجة، وصارت تستعمل في الموسيقى الشعبية وسميت عندئذ الجيتار الإسباني (Guitarra española) ومن هنا انطلقت آلة الجيتار الجديدة هذه في رحلتها إلى كل من إيطاليا وفرنسا.
كمادة استماع لهذه الآلة ليس هناك أفضل من رقصة البورييه من السويت رقم 996 للمؤلف يوهان سيباستيان باخ:
مع تخطي القرن السابع عشر، وبسبب التطور الدائم للموسيقى توسع دور آلة الجيتار من مجرد ضرب كوردات مصاحبة للغناء إلى طريقة العزف الكونتربواني (counterpoint)، إلى أن جاءت الضربة النهائية في المرحلة الكلاسيكية المبكرة، حيث تبدل ترتيب الأوتار ودوزانها بشكل مستمر، إلى أن تم التوصل لإيجاد ترتيب يتناسب وعزف اللحن (الميلودي) الذي أصبح في المقدمة كعنصر أساسي للموسيقى، وهنا أضيف إلى الجيتار الكلاسيكي وتر سادس (وهو الوتر الأغلظ) في القرن التاسع عشر، وأخد الجيتار شكله النهائي المعروف اليوم.
من حيث الصوت، أدى إحداث الفجوة الدائرية في جسم الآلة والتي تسمى القمرة في نقل الاهتزازات إلى كامل الجسم المصوت للجيتار، وبالتالي أصبح الصوت الصادر من الآلة أقوى.
لاقت آلة الجيتار في تلك الفترة ازدهاراً جيداً في كل من باريس وفيينا وبراغ، حيث قام العديد من الموسيقيين في تلك المدن بكتابة أعمال موسيقية مهمة جداً لهذه الآلة مما ساهم في تطورها، أمثال فيرناندو سور (Fernando Sor) وديونيسيو أجوادو (Dionisio Aguado) ويوهان كاسبار (Johann Kaspar) وغيرهم كثر.
يمكننا الاستماع هنا إلى السويت الإسباني Suite española من مؤلفات Gaspar Sanz:
مع حلول عصر الرومانسية عادت جذوة التطور إلى إسبانيا، وخصوصاً على يد الإسباني فرانشيسكو تاريجا (Farncisco Tárrega) الذي طور تقنيات في النقر على الأوتار ومسكة اليد اليسرى على الرقبة، واللتان لا تزالان تستخدمان حتى يومنا هذا في الكثير من مدارس العزف على الجيتار.
بنفس الفترة جاء أنطونيو دي توريس (Antonio de Torres)، وأضاف تفاصيل ميكانيكية مهمة من حيث شكل الآلة وقياساتها وطريقة تصنيعها، والتي شكلت حجر الأساس للجيتار الكلاسيكي المستعمل اليوم.
هذا المقطع يعرض إحدى معزوفاته ذكريات قصر الحمراء „Requerdos de Alhambra“
بحلول عام ١٩٢٠ انتشرت موسيقى البيغ باند (Big Band) الصاخبة بشكل واسع، وغيرها من الأنماط الموسيقية كالبوب والروك مثلاً، والتي لاقت إقبالاً جماهيرياً كبيراً، فدعت الحاجة إلى تطوير جيتارات ذات أصوات عالية تتناسب مع آلات النفخ النحاسية، وإلا فما كان بإمكان آلة الجيتار أن تتمكن من دخول حقل الموسيقى الحديثة، لذلك بدأ البحث عن طريقة عملية لتضخيم صوت الجيتار.
بالبداية تم تحقيق هذا الشيء عن طريق ابتكار جيتارات الطرق (Schlaggitarren)، وهي عبارة عن أجسام كبيرة ومصوتة.
إبتداءً من عام ١٩٣٠ بدأ التفكير في تقوية صوت الجيتار الكترونياً، وفي عام ١٩٣١ اخترع كل من جورج باوكامب (George Beauchamp) وأدولف ريكينبيكير (Adolph Rickenbacker) أول جهاز رافع (بيك أب) إلكتروني مغناطيسي قادر على تحويل الاهتزازات الناتجة عن نقر الأوتار المعدنية إلى فرق توتر كهربائي، وكان هذا الرافع عبارة عن حدوة معدنية ممغنطة تحيط بالأوتار المشدودة على جيتار خشبي، وهنا تم الإعلان عن ولادة أول جيتار كهربائي (Solidbody-E-Gitarre) وسمي بالمقلاة (Frying pan) لأن شكله يشبه المقلاة، ،بعدها توالت التطورات والتحسينات على الجيتارات الكهربائية اللاحقة، وتم تصنيع العديد من الموديلات كـ:
ES-150 from Gibson
Telecaster
Ibanez
وأخيراً Variax
يتبع في المقال اللاحق: دور الجيتار في مختلف الأنماط الموسيقية الأخرى (غير الكلاسيكية) كالفلامنكو والبلوز والجاز واللاتين والفولك والكونتري والروك والسول أند فنك.. مع أمثلة سمعية جميلة عنها
المصادر