الفيزياء والفلك > علم الفلك
تلسكوب هابل: انجازاته,أسرار نجاحه, خلفاؤه المستقبليون
في الرابع والعشرين من (نيسان \ ابريل) يكون قد مضى 25 عام على إطلاق التلسكوب الفضائي هابل من منصة كاب كانفيرال إلى مداره القريب من الأرض على متن المركبة الفضائية ديسكوفري.
قامت ناسا ببناء هذا التلسكوب بالتعاون مع وكالة الفضاء الأوروبية. وكان له دور ثوري في الفيزياء الفلكية بالإضافة إلى دوره في إعادة الاهتمام إلى منازل الملايين بالاكتشافات الفضائية. يمكن أن تطلب من أي عائلة أن تذكر اسم تلسكوب ما فستقوم بذكر اسم هابل على الأرجح.
يدور هابل حول الأرض كل ساعة ونصف. وقد أتم 130 ألف دورة منذ انطلاقه. التقط أكثر من مليون صورة بدءاً من غيوم الغبار الكونية حتى المجرات البعيدة. أكثر من 12800 مقالة علمية اعتمدت على البيانات التي التقطت من هابل. مما جعل تلسكوب هابل من أهم الأدوات الاستكشافية التي تم بناؤها حتى الآن.
تميز هابل بطول عمره وريادته في المعلومات المفتوحة وتفوقه في الانجازات وتركيزه على احتياجات المجتمع. بالإضافة إلى العديد من الفرق العلمية المتفانية في العمل من وكالات فضائية ورواد فضاء والعلماء بالإضافة إلى البنى التحتية المتطورة التي سخرت له. هم من حولوا الكارثة التي ظهرت بعد أسابيع من اطلاقه (عيوب في مرآته الرئيسية) إلى انتصار علمي.
مع دخول هابل لعقده الأخير في الخدمة وبدء العمل على إطلاق خلفاء له في الخدمة (مثل تلسكوب ويب) لا بد من الوقوف على الإرث الكبير الذي سيتركه هابل وراءه.
علمنا هابل أنه من أجل أن نجيب على أصعب الأسئلة في الكون لا بد من أن نفكر بعمق ونضع طموحاتنا العلمية فوق اعتباراتنا المالية. الأولوية التالية حالياً صنع تلسكوبات قادرة على رصد مؤشرات الحياة في الكواكب الأخرى.
لا تقتصر عظمة هابل على الاكتشافات الفردية التي نسبت له، بل أيضاً في تأكيد النتائج التي وصلت لها التلسكوبات الأخرى. كما أن الكثير من التفاصيل التي أصبحت مرئية بفضله دفعت العلماء لإعادة النظر في الكثير من النظريات عن الكون.
تكمن قوة التلسكوب من مداره العالي فوق الغلاف الجوي الأرضي على ارتفاع 560 كيلومتر. حيث لا يتأثر بالغلاف الجوي واضطراباته . يتمتع هابل بعين ثاقبة قادرة على التقاط تفاصيل الأجسام الخافتة على الرغم من صغر حجمه نسبيا. فقطر مرآته الرئيسة 2.4 متر تعمل عمل مرآة قطرها 8-10 أمتار على الأرض.
يمكنه رؤية أجسام تبعد عن بعضها (0.07 ثانية زاوية) أي كأنك تقرأ التاريخ الصنع على عملة معدنية(عشرة سنتات) صغيرة على بعد 3 كيلومترات. يستطيع أن يلتقط الأشعة المرئية أقوى بعشر مرات من أي تلسكوب موجود على الأرض.
يستطيع هابل التقاط الأطوال الموجية بدءاً من الفوق بنفسجية حتى التحت حمراء القريبة. قدرته على التقاط الأمواج الفوق بنفسجية تفوق بـ 100 مرة أي تلسكوب آخر موجود حاليا.
كانت مهمة هابل الرئيسة حل ثلاث معضلات:
- قياس سرعة توسع الكون.
- دراسة تطور المجرات.
- دراسة الغيوم الغازية التي تمتد بين المجرات (الوسط بين المجرات).
وقد حقق هابل نتائج ناجحة وغير متوقعة خلال مسيرته وسنذكر أهمها:
• أولى المهام التي أوكلت لهابل تقليل مجال الخطأ في حساب ثابت التوسع الكوني. سمي هذا الثابت بـ (ثابت هابل) نسبة إلى العالم إدوين هابل الذي اكتشف توسع الكون. بين عامي 1994 و2011 تمكن العلماء بفضل هابل من تحسين معامل الخطأ من 2 إلى عدة أجزاء مئوية. بفضل هذه الحسابات تم وضع عمر أدق للكون بـ 13.8 مليار سنة. ساعد على ذلك قدرة هابل على الوصول إلى المجرات البعيدة والتقاط التغيرات الدورية في سطوع فئة من النجوم النابضة تدعى القيفاوية المتغيرةCepheid variable.
• عام 1998 أكد تلسكوب هابل أن الكون يتوسع بواسطة قوة غامضة تسمى الطاقة المظلمة. توصل إلى هذا الاستنتاج من التقاط الأشعة الخارجة من انفجارات السوبر نوفا البعيدة. لا تستطيع هذه الأشعة اختراق الغلاف الجوي الأرضي لذلك كان من المستحيل رصدها من المراصد الأرضية. تعد الطاقة المظلمة واحدة من أهم الألغاز التي يواجها علماء الفيزياء في الوقت الراهن.
• كما أنتج التلسكوب ما يسمى (الملخص التنفيذي) لتكون النجوم عبر الزمن الكوني. تم التقاط مجموعة من الصور بين عامي 1995 و2014 سميت بحقل هابل العميق. حيث كان التلسكوب يوجه لبقعة من السماء لمدة 10 أيام ليلتقط خلالها أكبر كمية ممكنة من الأشعة. ظهر في هذه الصور كميات هائلة من المجرات التي تشكلت مباشرة بعد 500 مليون عام من الانفجار العظيم. هذه الصور طرحت الكثير من التحديات عن كيفية تشكل النجوم ودورها في تسخين وتشرد الكون. مازال العلماء يحاولون فهم لماذا ازداد معدل تشكل النجوم بشكل كبير خلال العشر مليارات سنة الأخيرة.
• بفضل الوضوح العالي للتلسكوب تمكن العلماء من دراسة حركة النجوم والغازات في مراكز المجرات الأخرى. مما أدى إلى إثبات وجود ثقوب سوداء ضخمة في مراكز معظم المجرات. حيث تملك هذه الثقوب كتل تتراوح بين عدة ملايين إلى عدة مليارات من كتلة الشمس. التناسق بين كتلة الثقوب السوداء الضخمة وانتفاخ تجمع النجوم حولها يدل على أن المجرات والثقوب السوداء قد تطورت معاً.
• هو أول تلسكوب يرصد المركبات الكيميائية في الأغلفة الجويةللكواكب العملاقة الغازية حيث رصد الصوديوم والماء والميثان. يمكن لتلسكوب ضخم آخر في المستقبل التقاط بعض النشاطات الكيميائية الحية (كتنفس الاوكسجين والتركيب الضوئي) في الأغلفة الجوية للكواكب الصخرية خارج المجموعة الشمسية.
أسرار نجاحه:
• التجديد المستمر: حيث تم ارسال خمس بعثات له في الأعوام (1993 –1997-1999 -2002 – 2009) تم من خلالها إضافات بعض المصححات البصرية واستبدال اشرطة التسجيل بالسواقات الصلبة. كما تم تحديث الدروع الشمسية والكاميرات وأجهزة التحليل الضوئي. لولا هذه التحديثات لما تمكن هابل من العمل حتى اليوم أو كان استمر بالعمل بتقنيات السبعينات. ساهمت هذه الإصلاحات والتحديثات بزيادة إنتاجية التلسكوب للبيانات، وزودته بنظام أرشفة سهل الوصول، استلام خطط جريئة أكثر، بالإضافة إلى المزيد من التمويل من المؤسسات الفضائية المختلفة.
• دعمه للمشاريع الإبداعية الخلاقة. حيث تم وضع %10 من وقت عمله تحت تصرف الاقتراحات غير التقليديةالضخمة. يعطى للباحثين عام لتحليل الصور قبل أن يتم نشرها للعامة. وبعض البيانات الخاصة تنشر مباشرةً مثلحقول هابل العميقة تنشر مباشرةً. تلسكوب هابل ليس فقط اول من اتبع هذه السياسة بل كان الهاما للآخرين ليحذو حذوه.
• منذ بداية عمله تمتع هابل بنظام أرشفة وحفظ معلومات دقيق ومؤتمت (كمعلومات معايرة الأدوات مثلا) أكثر من أي مرصد آخر. خلال العقد الأخير تم نشر الكثير من البيانات الخاصة إلى العامة كل سنة. في عام 2014 كان هناك 308 ورقة بحثية اعتمدت على معلومات هابل الأرشيفية. 283 منها اعتمد على البيانات الخاص التي لم تكن للنشر من قبل. تبنت مؤسسة المرصد الأوروبي الجنوبي هذه السياسة عام 1990.
• تبنت منحة ناسا للأبحاث كل الأرصاد الاختصاصية من هابل لضمان تحليلها والموافقة على نشرها في أسرع وقت. منذ عام 1990 تم قبول أكثر من 4،600 مقترح . وكان مجموع المنح المقدمة 500 مليون دولار.
• تبنى مشروع هابل جيل جديد من الباحثين. تم تعيين 352 باحث مابعد الدكتوراة وتمويلهم للعمل بشكل مستقل لمدة 3 سنوات على الأبحاث المتعلقة بهابل. منذ عام 1993 حوالي 500 أطروحة دوكتوراة استخدمت البيانات المقدمة من هابل.
هابل تلسكوب الجماهير:
غير هابل من خريطة انتشار المعلومات العلمية ونقلها إلى الجماهير. قام مكتب ادارة هابل بتمويل المشاريع لنشر العلم بدأ من الصحافة والمواقع الالكترونية وبرامج تعليمية في المدارس والمراكز العلمية ومسارح العرض القبية. كما تم الحرص على مشاركة الفلكيين والفيزيائيين المختصين في هذه النشاطات. مثلاً موقع تلسكوب هابل الرسمي يجذب مليارات المتابعين كل عام.
لقد كان فريق هابل التعليمي السباق في إيصال المواد العلمية إلى المدارس. حيث بدؤوا حين لم يكن هناك الكثير المتوفر في تلك الأيام. اليوم يصل محتواهم التعليمي لأكثر من 6 ملايين طالب و500 ألف معلم في الولايات المتحدة وحدها. كما تم وضع الكثير من عروض الوسائط المتعددة التي تتكلم عن المجرات والنجوم والثقوب السوداء في العديد من المراكز العلمية حول العالم.
تعتبر صور هابل من أجمل الصور الفنية لهذا العصر. وقد تسللت إلى ثقافتنا العامة. الكثير من الكتب زينت أغلفتها بصور من هابل. العديد من المغنيين وضعوا صور هابل على ألبوماتهم.
ماذا بعد؟
أثبت هابل للممولين أنه من الأفضل وضع ميزانيات ضخمة على مشاريع مهمة بدلاً من الاقتصاد في النفقات على مشاريع صغيرة. نجاح هابل شجع الممولين على الاستثمار بمشاريع أكثر طموحاً للمستقبل. حيث ركز الاهتمام على أكثر الأسئلة الحاحاً للإجابة. هل نحن قادرين تقنيا على الإجابة على هذا السؤال؟ هل تستحق هذه الإجابة التكاليف المتوقعة لها؟ والتصرف على هذ الأساس. يمكن تحقيق الأهداف بتأمين الدعم المالي المستقر والحرص على عدم تجاوز الميزانيات بالتخطيط الجيد والرقابة .
أكثر سؤال ملح اليوم (من وجهة نظر الكاتب) هو هل توجد هناك حياة في مجرتنا خارج المجموعة الشمسية؟ بفضل تلسكوب كيبلر تمكن العلماء من تقدير عدد الكواكب التي لها نفس حجم الأرض وتقع في المنطقة الحية حول النجوم التي تدور حولها بمئات الملايين. حيث يمكن ان تحوي على الماء السائل والسطوح الصخرية الصلبة.
الخطوة التي تلي كيبلر هي تلسكوب TESS سيتم اطلاقه عام 2017، الذي سيقوم بدراسة مجموعة من الكواكب المشابهة للأرض وتقع في المناطق المأهولة حول نجومها الصغيرة الكتلة. يكون مدار مثل هذه الكواكب قصير المدة ونجومها خافتة، ماسيسهل اكتشافهم نوعاً ما.
الخطوة التي تليه ستكون إطلاق تلسكوب جيمس ويب JWST في عام 2018 وتلسكوب (WFIRST/AFTA) الذي يتمتع بقدرة عالية على رصد الأشعة تحت الحمراء (سيتم اطلاقه عام 2024) وسيقوم برصد الماء وبعض المركبات الأخرى في الأغلفة الجوية لبعض تلك الكواكب.
من أجل تحديد مدى توفر أو ندرة الحياة في المجرة بدقة فإننا سنحتاج إلى تلسكوب قوي جدا. لا يقل قطر مرأته عن متراً ويستطيع التقاط صور الكواكب ونجومها الأم بدقة تفوق دقة هابل بخمس وعشرين مرة. وقادر على كشف وجود الاوكسجين وغيره من المواد العضوية في الأغلفة الجوية للكواكب.التلسكوب (WFIRST/AFTA) قادر على رصد كوكب ضوؤه أخف بمليار مرة من ضوء النجم الذي يدور حوله.(يتطلب تفاوت اضاءة يصل إلى10 مليار لتصوير كوكب كالأرض يدور حول نجم كالشمس) بالتأكيد سيحدث هذا التلسكوب طفرة في الاكتشافات العالمية.
سيتم فحص حوالي 50 كوكب مشابهة للأرض. تشير الحسابات إلى أنه إذا لم يتم رصد أي مظاهر حيوية على 36 كوكب منها. فإن إمكانية اكتشاف حياة خارج المجموعة الشمسية سوف تنقص حتى 10%.
يتوقع نشر تقرير عن هذا التلسكوب خلال شهر حزيران القادم. مازال هناك الكثير من العمل الذي يجب إنجازه. يجب على ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية وغيرها من الشركاء الاجتماع لتدقيق هذا المشروع. يجب تسريع الأبحاث للحصول على الإمكانات التقنية اللازمة لإنجاز الإقلاع قبل 2030. سوف تسعى جمعية الفضاء الأميركية إلى اعادة مناقشة هذه المشاريع خلال عام 2016 كأولويات للعقد القادم.
خلال هذا الوقت يجب صرف حوالي 100 مليون دولار كتمويل اضافي ربما من مصادر خاصةعلى المشاريع التي تهدف لكشف آثار حضارات ذكية في الكون من خلال تمويل مشاريع لرصد أمواج راديوية أو مرئية يمكن أن يكون مصدرها حياة ذكية. قد تكون فرصة النجاح ضعيفة لكنها تستحق المحاولة.
لأول مرة في تاريخ البشرية يوجد هناك احتمال أن نتصل مع كائنات فضائية خلال 25 عام القادمة.
المصدر: هنا