الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة
ما الذي زاد من حساسية سورية أمام موجة الجفاف الأخيرة؟
عانت سورية كما أسلفنا في مقال سابق (هنا) من جفاف شديد إلى متوسط الشدّة خلال الفترة الواقعة بين 1998 حتى 2009؛ فعلى مدى 7-11 سنة تلقّت معدل أمطار أقل من المعدل الطبيعي الذي كان سائداً في الفترة بين 1901 حتى 2008. لمَ إذاً كل تلك الخصوصية لموجة الجفاف الأخيرة (2006 – 2008) ولمَ كانت بهذا السوء؟
لم يكن التخطيط الزراعي في سورية مثالياً بل ربما يعتبره البعض أحد أسباب حساسية البلاد لموجة الجفاف؛ إذ تم اعتماد خطط زراعية وبيئية غير مستدامة ضاعفت من أثر تلك الموجة. لم تؤخذ ندرة المياه وموجات الجفاف المتكررة في الحسبان وتم تطبيق سياسات زيادة الإنتاج الزراعي منذ العام 1971، حيث تضمنت هذه السياسة إعادة توزيع الأراضي ودعم المزارعين بالوقود، الأمر الذي وإن كان إيجابياً في الظاهر إلا أنه هدد الأمن المائي من خلال استغلال الموارد والأراضي المحدودة دون اعتبارات الاستدامة (ترقب مقالنا عن أسس الزراعة المستدامة لاحقاً). كانت النتيجة انخفاض مناسيب المياه الجوفية، وغدا المطر العزاء الأخير.
تهطل الأمطار على سورية على مدى 6 أشهر في السنة (فصل الشتاء) من تشرين الثاني / نوفمبر حتى نيسان / أبريل وهي تتفاوت كثيراً من سنة إلى أخرى، ويعتمد المزارعون كثيراً على الهاطل السنوي لأن ثلثي الأراضي المزروعة في سورية تتغذى بعلاً (مع بعض الري التكميلي)، في حين يعتمد الباقي على الري من مصادر سطحية وجوفية.
يروي المزارعون الذين لا قدرة لهم على الوصول إلى قنوات الري المرتبطة بروافد الأنهار بالضخ من المياه الجوفية والتي تشكل بالنسبة إلى هؤلاء أكثر من 60% من إجمالي المياه التي يستعملونها لأغراض الري. المشكلة؛ أن محدودية هذه المياه الجوفية ازدادت بسبب الاستخراج المفرط.
للحد من هذا الاستنزاف، سنـّـت الحكومة قانوناً العام 2005 يفرض تراخيص لحفر الآبار لكن جدواه فيما يبدو لم تلاق التوقعات، فالاستخدام المفرط للمياه الجوفية سبّب نضوب نهر الخابور في الشمال الشرقي للبلاد. حساسية الأراضي السورية لاستنزاف المياه الجوفية ناجمةٌ أساساً عن انخفاض إجمالي الهاطل السنوي لأقل من 200 مم والتفاوت الكبير في الهطول من سنة إلى أخرى؛ يضاف إلى ذلك الحساسية الناتجة عن:
- ازدياد الطلب على الموارد الطبيعية المتاحة في الآونة الأخيرة بشكل أكبر من فترة الخمسينيات بالإضافة إلى التركيز على الإنتاج الزراعي لمجاراة نمو التعداد السكاني (قفز التعداد السكاني من 4 إلى 20 مليون بين فترة الخمسينيات والسنوات الأخيرة)؛
- استنفاد المتوفر من المياه الجوفية خاصةً مع انخفاضها أصلاً لشح الأمطار؛
- وقوع موجة الجفاف الأخيرة بعد فترة جفاف نسبي قصيرة في التسعينيات.
يمكننا القول إذاً أن الازدياد السكاني كان من بين العوامل المساهمة في إنهاك الموارد المائية بالتزامن مع قسوة الطبيعة وانحباس المياه.
لمَ كلّ هذا الإصرار على إقحام العامل البشري؟
إن ما يدفع للاعتقاد بوجود دور بشري كبير في الجفاف الأخير رغم أن موجاته متعددة-السنوات حدثٌ دوريٌ طبيعيٌ في المنطقة، هو أن الجفاف الذي حدث مؤخراً لم يكن حاضراً خلال القرن الماضي الذي تميز مناخه بتوجّه (trend) طويل الأمد نحو التجفاف، ناهيك عن أن نماذج المحاكاة المـُناخية تُقحم التأثير البشري كمكوّن هام في الجفاف الحاصل.
تشهد المناطق شبه القاحلة (semi-arid) عموماً تدهوراً ناجماً عن الأنشطة البشرية التي تعتبر واحدة من الأسباب الرئيسية للتصحر. يعتبر الرعاة شبه الرحّل، الذين ينتقلون في بداية مواسم الأمطار لرعي حيواناتهم ولزراعة الشعير البعلي، المستخدِم الرئيس للأراضي الجافة. يضاف إلى الرعي الجائر إنشاءُ وتوسيع المستوطنات البشرية والتنمية الزراعية كأسباب أخرى للتصحر. يلاحظ أن المراعي القاحلة وشبه القاحلة في سورية تحتوي من الماشية ثلاثة أضعاف ما تسمح به قدرتها الاستيعابية، وتدعم إحصائيات الفاو (منظمة الأغذية والزراعة العالمية) هذه الحقيقة حيث تؤكد على تزايد عدد سكان المجتمع الريفي وما يرافقه من زيادة في عدد الأغنام.
في بحث أجري مؤخراً بطريقة ذكية –لا تخلو من المآخذ– تم دراسة الأثر البشري في تدهور الأراضي بالاعتماد على التغيرات الطفيفة في الكتلة الحية للغطاء النباتي. إذ تمت مقارنة الكتلة الموجودة بتلك التي يفترض أن تنمو اعتماداً على الهطولات المطرية؛ على اعتبار أن الفرق بين الكتلة الحقيقية والمفترض نموها (التراجع) ما هو إلا حصيلة تأثير النشاط البشري. أجري البحث كجزء من التعاون بين إيكاردا/حلب ومركز ييل Yale لمراقبة الأرض؛ وبدعم من ناسا.
لتنفيذ الدراسة، استُخدمت بيانات NDVI (مؤشر الفرْق المسوّى في الغطاء النباتي) التي تم جمعها من الأقمار الصناعية المزودة بـ AVHRR (راديوميتر متقدم فائق الدقة)؛ بالإضافة إلى بيانات الأمطار طبعاً. NDVI هو مقياس رسومي بسيط يمكن استخدامه لتحليل قراءات الاستشعار عن بعد (مسجّلة من منصة فضائية؛ عادةً لكن ليس بالضرورة)، حيث تُقيـّـم المنطقة المستهدفة من حيث احتوائها (أو عدم احتوائها) على نباتات خضراء حية. أما الـ AVHRR فهو يستخدم الأشعة المنعكسة لتحديد الغطاء السحابي فوق الأرض ودرجة حرارة سطح الأرض أو حرارة السطح العلوي للغيوم أو حرارة مسطح مائي؛ يستخدم هذا المقياس 6 كشافات تجمع مختلف نطاقات موجات الإشعاع "متعددة أطوال الموجة".
تم تحديد فترات الأمطار الأفضل التي تعطي أعلى قيمة للمؤشر NDVI (أعلى تغطية وكتلة حيوية نباتية ناجمة عن هطول الأمطار) حيث تعبر الانحرافات الإيجابية والسلبية عن العلاقة بين أفضل هطول وأفضل تغطية كتابع للنشاط البشري.
مآخذ الدراسة ونتائجها:
لا يمكن اعتبار العلاقة بين التغطية النباتية الأعظمية والهطول في البكسلات (أجزاء الصور الملتقطة) التي ظهرت أو اختفت الزراعة فيها، ممثلةً لاستجابةَ النبات للأمطار بشكل كبير؛ وذلك لأنها تعطي مؤشر تغطيةٍ عالياً خلال سنوات/مواسم الزراعة؛ تليها قيم منخفضة جداً بعد الحصاد أو بعد توقف استثمار هذه الأرض زراعياً.
من الصعب تحديد فيما اذا كانت المنطقة تتجه إلى تدهور أم لا سواء تم الاعتماد على مؤشر التغطية أم على غيره. ففي معظم الحالات يتم الإشارة إلى هجر الزراعة على أنه تدهور في حين أنه سيكون تطور إيجابي لاستخدام الأرض (land use) اذا ما كانت غير صالحة للزراعة أصلاً. كذلك قد يعتبر ازدياد المساحة الخضراء إيجابياً في الوقت الذي يكون فيه تدهوراً إذا ما نتج عن توسّع الزراعة باتجاه الأراضي الجافة.
كذلك فإن أحد أشكال التدهور قد يحدث من خلال استبدال الشجيرات المستساغة من قبل الحيوانات بأخرى غير مستساغة؛ الأمر الذي لا يغير كثيراً من الكتلة الحية فلا تتمكن حساسات الأقمار الصناعية المستخدمة في التجربة من كشفه.
رغم المآخذ أعلاه، تناسبت القراءات الدالة على تناقص الكتلة الخضراء وبشكل مقبول مع المناطق التي تعتبر متدهورة ومعرضةً للرعي الجائر؛ من قبل المسوحات الميدانية لوزارة الزراعة السورية. وقد أعطى البحث تلميحات قيّمة حول المناطق التي يحتمل أن يحدث فيها تغييرات بسبب الإنسان، ليصار إلى دراستها بمزيد من التفصيل وإلى اتخاذ التدابير الملائمة لإعادة تأهيلها. خلصت الدراسة إلى أن الفقد الكلي في الكتلة الخضراء الحية عموماً والعائد إلى تدهور الأراضي أكبر من الفقد المقدّر بالاعتماد على الأمطار (نتيجة انحباسها/انخفاض معدلات الهطول) مما يعزو جزءاً من السبب إلى النشاط البشري.
صحيح أن التذبذب المـُناخي في سورية عائدٌ إلى ظروف طبيعية أساساً، لكن إذا فكرنا بشكل أشمل فسنجد أن نشاطات الإنسان خاصةً في الدول الصناعية والمتقدمة لا تنفك تدمر مـُناخ الأرض بشكل عام، وسورية ضمناً.
ماذا عن دول الجوار؟
قد يكون من الحكمة النظر إلى وضع الدول المجاورة إذا أردنا معرفة مدى مساهمة السوريين أنفسهم في آثار الجفاف على سورية. إن حساسية سورية للجفاف كانت أكبر من حساسية جاراتها تركيا والعراق رغم أن موجة الجفاف أثرت عليها جميعاً؛ لكن سورية كانت الأكثر تأثراً لاعتمادها بشكل كبير على معدل الهطول السنوي والانخفاض المستمر للمياه الجوفية. فقد وصل فاقد سورية من الموارد المائية المتجددة الداخلية إلى 160% بينما وصل في العراق إلى 80% وفي تركيا فقط إلى 20% العام 2011 وذلك بسبب التنوع الجغرافي التركي ولاستثمارها في مجال الري، وأما عن العراق فلعدم اعتماد قاطني الشمال الغربي فيه على الزراعة بقدر اعتماد سوريي المنطقة نفسها عليها.
أخيراً، يجعل التقلب الكبير في المـُناخ وتفاوت معدّل الهطول من سنة لأخرى تحديدَ مصدر التدهور أكثر صعوبة؛ بمعنى صعوبة تحديد مسؤولية السوريين عن هذا التدهور. بدأت جهود لمنع تدهور الأراضي الجافة من خلال إعادة تأهيل وتحسين إنتاجية المراعي المتدهورة، ولجعل هذه الجهود أكثر كفاءة وجب تحديد المناطق التي تشهد أسوأ درجات التدهور للبدء بها بالسرعة الممكنة.
المصادر:
العطية، محمد عدنان؛ الموسى، فواز أحمد. 2009-2010. أسباب التغيير المـُناخي. دراسة أعدت لنيل الإجازة في الجغرافية الطبيعية. قسم الجغرافيا- شعبة الطبيعية / كلية الآداب والعلوم الإنسانية / جامعة حلب / سورية
حليمة، عبد الكريم؛ وسلّوم، جولييت. 2013-2014. جغرافية سورية العامة - قسم الجغرافية - لطلاب قسم الجغرافية / السنة الثالثة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية / جامعة تشرين / سورية
Evans J. and Geerken R. (2004). Discrimination between climate and human-induced dryland degradation. Journal of Arid Environments، 57(4): 535-554. هنا
Kelley C. P.، Mohtadi S.، Cane M. A.، Seager R. and Kushnir Y. (2015). Climate change in the Fertile Crescent and implications of the recent Syrian drought. Proceedings of the National Academy of Sciences، 112(11): 3241-3246. هنا