كتاب > مفكرون وكتّاب
نزار قباني: شاعر الحب و الياسمين
قال أنسي الحاج: " في فضاء الشعر العربي، نزار قباني وهجٌ طرَقَ، وبرَق بدل أن يخطر ويختفي، التمعَ وانتشر، وجلس يشعُ لأنه صار جسرًا بين عالمين".
وقد قال أدونيس: " لقد أخرج نزار قباني العرب من الانكماش في دواخلهم، وقذف بهم إلى الخارج وإلى الشارع وإلى الساحات وإلى المحيط المشترك الذي تصطرع فيه أمواج أحلامهم وآمالهم، وإلى الصحراء التي تتدحرج فوق رمالها حياتهم وأيامهم".
واكتسبت قصائده شفافية التعبير ورقة البوح من رائحة الياسمين وصوت مياه بردى، واختمرت عبقريته الشعرية من تأمل الجمال الشامي بكل ما فيه من هديل الحمام في الجامع الأموي وصوت أجراس كنائسها، إنه نزار قباني.
"هذا المنزل الجميل، كان الخلفية الخضراء التي كتبت فوقها شعري، ولولا هذا البيت لكان شعري مختلفًا جدًّا، إن الناقدين أجمعوا الآن على أنَّ أبجديتي مائيةٌ أي أبجديةٌ تشبه دمشق".
ولد نزار قباني لأسرة عريقة في حي مئذنة الشحم في دمشق في 21 آذار 1923، ونشأ في بيت تفوح من كل زاويةٍ فيه رائحة الورد البلدي والمنثور والريحان وتطرز صمته نافورةٌ لا تكفُّ عن الغناء وتضفي على هذا الفردوس رونقًا وعذوبةً.
" خمسونَ عامًا وأنت تخبئنا تحت أهدابك وتطعمنا اللوز والسكر، وتغني لأجلنا قبل أن تنام، وتأخذنا إلى المدرسة صباحًا وتشتري لنا الملبس والشوكولاته عند العودة، وتشتري لنا الكتب وتحفظ قصائدنا الأولى في جيوبك حتى لا تضيع."
والده توفيق قباني أول من أدخل صناعة الملبس والشوكولا إلى دمشق من فرنسا، وهو المشارك في المقاومة الوطنية ضد الانتداب الفرنسي أيضًا، والذي كان منزله مكانًا لاجتماع أقطاب المعارضة الوطنية في العشرينات، أما والدته فهي فائزة آقبيق التي تعلق بها تعلقًا شديدًا برز في قصائد كثيرة يدمج فيها بين حنينه إلى دمشق مهده الأول وبين حنينه إلى الطفولة التي لم تغادره حتى وهو على سرير شيخوخته، تُعدُّ قصائده في ديوان «الرسم بالكلمات» خير دليلٍ على شغف الطفل بصورة الأم المكافحة الصبورة.
وقد ماتت شقيقته وصال منتحرةً في سن الخامسة عشرة مما ترك في ذهنه أثرًا لا يُمحى، وربما ساعد في صياغة فلسفته العشقية لاحقًا ومنظوره لصراع المرأة لتحقيق ذاتها وأنوثتها في مجتمعٍ شرقيٍ مناهضٍ للحب والعشق، فيصف نزار حادثة الانتحار فيقول: "صورة أختي وهي تموت من أجل الحب محفورةٌ في لحمي، كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدوية".
ويعترف نزار في أكثر من مناسبة بأن الانتحار كان بسبب حبٍ خائبٍ عارضه الأب بشدة، فيقول في قصيدة «يوميات امرأة» وهو يشير إلى النظرة المزدوجة للمجتمع الشرقي للرجل والفتاة ويحلل الحب للرجل فقط:
لماذا في مدينتنا؟ نعيش الحب تهريبًا وتزويرًا؟ ونسرق من شقوق الباب موعدنا
ونستعطي الرسائل والمشاويرا
لماذا في مدينتنا ؟ ... يصيدون العواطف والعصافيرا
لماذا نحن قصديرا؟... وما يبقى من الإنسان... حين يصير قصديرا؟
لماذا نحن مزدوجون... إحساسا وتفكيرا؟
لماذا نحن أرضيون... تحتيون.. نخشى الشمس والنورا؟
لماذا أهل بلدتنا ؟... يمزقهم تناقضهم
ففي ساعات يقظتهم... يسبون الضفائر والتنانيرا
وحين الليل يطويهم.... يضمون التصاويرا
وشغل نزار في بدايات مراهقته بالرسم ودرس أصول الخط وتعلم بعض الموسيقا ولكنه مالبث أن استجمع مواهبه وصبّها في بؤرة الشعر، وتتلمذ على يد خليل مردم بك الذي علمه أصول النحو والصرف والبديع.
بدأ نزار كتابة الشعر في سن السادسة عشرة، وكتب أولى قصائده أثناء رحلة مدرسية إلى إيطاليا، فكانت أولى قصائده هي قصيدة «نهد» عام 1941، ثم كتب ديوان «قالت لي السمراء» في 1944 والذي كان بمثابة صباح جديد في الشعر العربي، فقد وجد فيه الدمشقيون نوعًا من الجرأة المبالغ فيها وتجاوزًا للخطوط الحمر.
يقول نزار عن هذا الديوان: "(قالت لي السمراء) حين صدوره أحدث وجعًا عميقًا في جسد المدينة التي ترفض أن تعترف بجسدها أو بأحلامها، كان دبوسًا في عصب المدينة الممدودة منذ خمسمئة عام على طاولة التخدير، تأكل في نومها، وتعشق في نومها وتمارس الجنس في نومها".
ويقول أيضًا:" أنا أؤمن منذ الأربعينات منذ قالت لي السمراء أنه لا يمكن تحرير وطن إلا من خلال تحرير جسد الرجل والمرأة معًا من كوابيسهم الجنسية وأن وطًنا لايوجد فيه علاقات حب نظيفة وحقيقة لا يمكن أن يتحرر إطلاقًا".
ومنذ ذلك الحين بدأت رحلة الشاعر مع الكلمة المتحدية المتحررة فكل قصيدة كان ينشرها كانت بمثابة زوبعة تنثر الكثير من الجدل الذي يبدأ ولا ينتهي، فاعتمد الشاعر على الصور الحسية المنسوجة بتلقائية مفرحة جاءت لتؤكد صوته المتفرد الجديد، متجاوزًا كل الممنوعات، فكان يكتب للمرأة وعن المرأة مقدمًا مكاشفات جدلية بين النص والجسد وبين القارئ ورغباته الدفينة.
ودعتكِ الأمس وعـدتُ وحـدي *** مفكَّرًا ببوحكِ الأخيــــــرِ
كتـبتُ بالضـــوءِ وبالعبــيــر *** كتبتُ أشياءَ بدون معنى
جميعُها مكتوبةٌ بنورِ من أنت *** من رماكِ في طريقــــي؟
من حركَ المياهَ في جـــذوري؟ *** وكان قلبي قبل أن تلوحي
مقبـــــرةً ميتــــــــة الزُهـــــور *** مُشكلتي.. أني لستُ أدري
حدًّا لأفكاري ولا شعــــــــوري *** أضعتُ تاريخي وأنتِ مثلي
بغير تــــــاريـخٍ ولا مصيــــــرِ *** محبتي نـــــارٌ فلا تُجنَّي
وتتالت دواوين نزار فكتبَ:
«طفولة نهد» 1948، و«سامبا» 1949، و«أنت لي» 1950.
وقد كانت القصائد جريئة ويُلاحظ فيها استخدام الشاعر لتقنية المونولوغ متحدثًا باسم البطلة مثل قصيدة «حبلى»، التي أضاء فيها على نوع آخر من العلاقات بين الرجل والمرأة، وقصيدة «إلى أجيرة»، التي أحدثت انقلابًا في حساسية نزار العشقية مصورًا فيها المرأة كائنًا أرضيًّا وليس نمط جمالي خالد ومبينًا الرجل كطاغية.
بدراهمي... لا بالحديث الناعمِ
حطَّمتُ عزَّتك المنيعةَ كلَّها بدراهمي
وبما حملتُ من النفائس والحرير الحِالمِ
فأطعِتني
وتبعتني
كالقطَّة العمياء، مؤمنةً بكلَّ مزاعمي... فإذا بصدرك، ذلك المغرورِ، ضمنَ غنائمي
أين اعتدادُك؟… أنتِ أطوعُ في يدي من خاتمي
قد كان ثغرُكِ مرةً… ربّي، فأصبح خادمي
آمنتُ بالحسن الأجير وطأتُهُ بدراهمي
وركلتُهُ وذللتهُ
بدُمىً، بأطواقٍ كوهم الواهمِ
ذهبٌ وديباجٌ... وأحجارٌ تشعُ... فقاوم
أي المواضع منكِ
لم تهطُل عليه غمائم
خيراتُ صدرك كلُّها
من بعضِ بعضِ مواسمي...
درس نزار الحقوق في جامعة دمشق وتخرج منها عام 1945 والتحق بالسلك الدبلوماسي وخدم على مدى عشرين عامًا في عواصم عديدة منها القاهرة وبكين ولندن وأنقرة وبيروت ومدريد، وفي عام 1950، صدر ديوان «قصائد» والذي برز فيه الهم الاجتماعي، وكتب في عام 1955 «مذكرات أندلسية» في عمله في أسبانيا مرثيًا ضياع أمجاد العرب وتحول التاريخ العربي فيها إلى أوراق ناعمة في المتاحف، وكتب ديوان «يوميات امرأة لامبالية» الذي نُشر بعد عشر سنوات في عام 1968 ملخصًا فيه تمرد الأنثى على بيئتها الاجتماعية والثقافية، إذ يقول في مقدمة الديوان: "هذا الكتاب، هو كتابكنَّ، هو كتاب كل امرأة حكم عليها الشرق الغبي الجاهل المعقد بالإعدام ونفذ حكمه فيها قبل أن تفتح فمها".
ثُوري! أحبّكِ أن تثُوري...
ثُوري على شرق السبايا والتكايا والبخُورِ
ثُوري على التاريخ وانتصري على الوهم الكبيرِ
لا ترهبي أحدًا فإن الشمس مقبرةُ النسورِ
ثُوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوقَ السريرِ
ومن ثم شكلت قصيدة «الحب و البترول» هزةً سياسية أولى شنَّ عبرها نزار هجومًا قاسيًا على أُمراء البترول وسلطة المال القامعة، وتتالت القصائد الناقدة للواقع العربي
كان نزار يقترب رويدًا رويدًا من أسلوب قصائده السياسية وكان يعبر في أكثر من مناسبةٍ عن رداءة الوضع العربي، مما جعله يترك العمل السياسي عام 1966 وأسس دار للنشر في بيروت تحمل اسمه.
" يا وطني يا وطني الحزين حولتني بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين".
ومع نكسة حزيران 1967 تبلور هاجسه النقدي الهجائي، وكانت قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» شهادة دامية على المنعطف الأخير والخطير على واقع العرب، وتتالت قصائده «منشورات فدائية على جدران إسرائيل»، و«ثلاثية أطفال الحجارة»، و«إفادة في محكمة الشعر».
لن تجعلوا من شعبنا
شعبَ هنودٍ حُمرْ
فنحنُ باقونَ هنا...
في هذه الأرضِ التي تلبسُ في معصمها
إسوارةً من زهرْ
فهذهِ بلادُنا...
فيها وُجدنا منذُ فجرِ العُمرْ
فيها لعبنا، وعشقنا، وكتبنا الشعرْ
مشرِّشونَ نحنُ في خُلجانها
مثلَ حشيشِ البحرْ
مشرِّشونَ نحنُ في تاريخها
في خُبزها المرقوقِ، في زيتونِها
في قمحِها المُصفرّْ
مشرِّشونَ نحنُ في وجدانِها
باقونَ في آذارها
باقونَ في نيسانِها
باقونَ كالحفرِ على صُلبانِها
باقونَ في نبيّها الكريمِ، في قُرآنها..
وفي الوصايا العشرْ...
تزوج نزار قباني مرتين، الأولى من زهرة آقبيق وله منها توفيق وهدباء، والمرة الثانية من بلقيس الراوي معشوقته التي أنجبت له زينب وعمر، والتي توفيت في تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981، ورثاها بقصيدةٍ تحمل اسمها.
بقي نزار وفيًّا لدمشق وبقيت وفيةً له إذ أُصدِر مرسوم جمهوري بتسمية شارع في منطقة المهاجرين باسم «شارع نزار قباني»، وعبر نزار عن فرحه بقوله: " هذا الشارع الذي أهدته دمشق إلي هو هدية العمر، وهو أجمل بيتٍ أمتلكه على تراب الجنة، تذكروا أنني كنت يومًا ولدًا من أولاد هذا الشارع لعبت فوق حجارته، وقطفت أزهاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره".
رحل نزار مودعًا هذه الدنيا في صباح 30 نيسان 1998 تاركًا إرثًا شعريًّا عظيمًا لا يمكن أن نمل منه مهما كررنا القراءة!
المصادر:
كتاب :رواية اسمها سورية ( د. عابد إسماعيل).
برنامج بصمات
الجزيرة الوثائقية