الطب > مقالات طبية
نهاية ملكة النيل
بعد أن أرسلَتْ إلى قيصر روما رسالةً مكتوبةً ومختومةً بيدها، أغلقَتْ كليوبترا أبواب مقبرتها الملكية ولم تبقِ إلا اثنتين من خادماتها معها. وحالما فتح القيصر الرسالة ووجد فيها بعض الصلوات وتوسلات كليوبترا لتُدفَن مع زوجها مارك أنتوني في نفس المقبرة، فَهِم ما كان يجري وسارع بتهورٍ لتقصِّي الأمر، ولكنه عدل عن رأيه فيما بعد وأرسل رسله لمعرفة القصة. وصل رسل قيصر على وجه السرعة ليجدوا الحراس على عادتهم دون أيِّ مظاهرَ تثير الريبة، ولكن ما إن فتحوا الأبواب حتى وجدوا جسد الملكة المرصَّع بالحليِّ الفاخرة مُسجَّىً على سريرٍ ذهبيٍّ وقد استلقت خادمتها إيراس Iras ميتةً عند قدميها ، بينما كانت خادمتها تشارمن Charmion بالكاد ترفع رأسها وهي على وشك السقوط تعدِّل تاج ملكتها. وعندما قال أحد الحراس الداخلين بغضب " تشارمن ما هذا؟ أيجدر بالملكة أن تفعل هذا؟" أجابت تشارمن "إنه الفعل الأفضل، ولكونها سليلة الملوك ..."، وقبل أن تنهي تشارمن جملتها سقطت ميتةً بجانب السرير.
من هي كليوبترا؟
حكمت كليوبترا، التي تنحدر أصولُها من إحدى سلالات الاسكندر الأكبر، مصر بالاشتراك مع والدها ثم أخويها ثم مع زوجها مارك أنتوني (بعد اغتيال يوليوس قيصر والذي كانت على علاقة معه أيضاً). واستمرَّ حكمها حتى انتصار أوكتافيوس (شقيق زوجة مارك أنتوني ومنافسه) بقواته على مارك أنتوني في معركة أكتيوم actium وانتحار الأخير إثر هذه الهزيمة.
هل ماتت كليوبترا بلدغة أفعى ؟
من الضروري تحديد ثلاثة ظروفٍ في أيِّ حالة وفاة: السبب (مرض معين أو إصابة)، والآلية (نموذج الأذيّة الفيزيولوجية)، والطريقة (طبيعية، حادث، انتحار، قتل). تكون هذه الظروف الثلاثة واضحةً في بعض الحالات ولكنها صعبة التحديد في حالاتٍ أخرى. واليوم، وبعد أكثر من ألفَي عامٍ على وفاة ملكة مصر الشهيرة كليوبترا، لا يمكن إيجاد أيِّ دليلٍ يثبت كيفية أو سبب وفاتها ولا تزال الظروف التي أحاطت بوفاتها غامضة.
عند الحديث عن وفاة كليوبترا، والتي حدثت عام 30 قبل الميلاد وهي بعمرالتاسعة والثلاثين، فإن الرواية الأشهر التي تتداولها الألسن هي الرواية التي نقلها المؤرخ اليوناني Plutarch، والذي لم يعش في عهد كليوبترا، حيث يقول بأن كليوبترا بعد انتحار مارك أنتوني وهزيمة القوَّات المصرية أمام الحاكم الروماني أوكتافيوس اختارت أن تنهي حياتها بنفسها على أن تؤخذ أسيرةَ حربٍ إلى روما. وحسب زعم Plutarch هرَّبت كليوبترا أفعى إلى مقبرتها الملكية وانتحرت مع خادمتيها بسمّ الأفعى.
بينما نرى أن Plutarch قد برّرَ روايتَهُ بأفعى، مُدَّعياً وجود غرزاتٍ على ذراع كليوبترا، نجد أن بعضاً من المؤرخين بالغوا في الوصف، ليكون المجرم اثنتين من الأفاعي لا واحدة، جاء هذا على لسان كل من "Virgil، Horace، Propertius".
وبالعودة إلى نظرية Plutarch فقد لاقت هذه النظريةُ العديد من الانتقادات، حيث لم يشهد أحدٌ على رؤية الأفعى في المقبرة، كما لم يشهد أحدٌ من الحراس أو الأطباء الذين تفحصوا الجثث على وجود أية علاماتٍ للدغة الأفعى أو انتفاخٍ أو سحجاتٍ على جسد كليوبترا أو خادمتيها، كما لا توجد أية أدلةٍ على أن أياً من النسوة تقيأتْ أو أصيبتْ بالاختلاج (التشنجات العضلية العنيفة، كما في نوبة صرع مثلاً) convulsion، وهي الأعراض التي ترافق لدغات الأفاعي السامة عادةً. ومن الأسئلة التي قد يسألها أيٌّ منَّا هل يمكن لسمِّ أفعى أن يتسبب في مقتل ثلاث نساءٍ دفعةً واحدةً؟
تستطيع أفعى الكوبرا المصرية حقن 173-300 ملغ من السمِّ في لدغةٍ واحدةٍ، مما يتسبب حتماً في مقتل أي شخص بالغ، ولكن اللدغات الجافة التي لا تطلق فيها الأفعى أيَّ سمٍّ هي ما يحدث في 30-50% من الحالات. مما يقلِّل من أرجحيّة أن يكون سمُّ أفعى واحدةٍ وراء موت ثلاث نسوة، وبافتراض حدوث أسوأ الاحتمالات وصحة سيناريو الأفعى، فإن حصول الوفاة بعد لدغة الأفعى يتأخر حتى 5 ساعاتٍ تقريباً حتى يصل تأثير الذيفانات العصبية في سمِّ الأفعى إلى الأعصاب التي تتحكم بعضلات التنفس، فلمَ قد ترغب ملكة مصر بإمضاء ساعات من العذاب والألم في انتظار الموت؟ كما أن التاريخ أخبرنا أن تلك الفترة في مصر كانت شديدةَ الحرارة (خصوصاً أن الوفاة حدثت في شهر آب)، ومن غير الطبيعي أن تحتمل أفعى درجات الحرارة تلك وتبقى مُحتفِظة بكامل نشاطها وقوتها لتُجْهِزَ على ثلاثة أجساد بشرية.
هل ماتت الملكة بالسمِّ ؟
أما النظرية الثانية والتي تتحدث عن وفاتها بالسمِّ، فتعتمد على خبرة المصريين القدماء الجيدة بالسموم والواضحة في مخطوطاتهم على أوراق البردي، حتى أن إحدى هذه المخطوطات تحدثت عن خبرة كليوبترا نفسها بالسموم؛ فقد جربت الملكة كل أنواع السموم المأخوذة من الحيوانات أو النباتات، وكانت تجبر خدمها على تجرّعها ثم تراقب النتيجة لتعرف تأثير السم والجرعة اللازمة للموت والأعراض المؤلمة التي يسببها كل نوع، وكثيراً ما كانت هذه التجارب تُجرى في حفلاتها مع زوجها مارك أنتوني كنوع من التسلية!!
وبحسب الباحثين الذين قدموا إلى الإسكندرية لدراسة المخطوطات الطبية القديمة فمن المحتمل أن تكون ملكة النيل ماتت بخليط من المواد النباتية السامة. ويعتقد العلماء أن كليوبترا أعدَّت السمَّ بخلط الأفيون opium مع aconitum مع نباتٍ سامٍ يدعى الشوكران hemlock. ومن المعروف في ذلك الوقت أن هذا الخليط السامَّ يتسبب في الوفاة دون ألمٍ وفي غضون ساعاتٍ قليلةٍ. ولكن تبقى الطريقة الوحيدة لإثبات هذه النظرية هي العثور على جثة كليوبترا وتحليل عينات منها لحلّ لغز وفاتها الغامض.
أما عن كيفية إيصال السم إلى جسدها، فتنوعت احتمالاتُ الطرق مع مرور السنوات؛ إن لم يكن السمُّ في الأفعى، فقد يكون في مشطٍ مُسمَّم يحمل السمَّ في أحد دبابيسه، وإن لم يكن المشط، فقد يكون دبوساً مُسمَّماً استخدمته كليبوبترا لتثبيت شعرها، فيما ذهب بعض المؤرخين إلى أن كليوبترا قد عضَّتْ ذراعها بنفسها، ومن ثم طبّقَتْ أحد سمومها على الجرح مباشرةً.
ربما ماتت كليوبترا قتلاً...
وبعد هذه الشكوك حول نظرية لدغة الأفعى ونظرية السمِّ فإن وفاة كليوبترا قد لا تكون انتحاراً كما يرى البعض، فبعد نفي احتمال الموت العفوي أو الموت بحادث والشكوك حول انتحارها، لا يبقى إلا احتمالٌ وحيدٌ وهو القتل. وبما أن أوكتافيوس كان وراء رواية الأفعى الشائعة التي نقلها Plutarch، فلربّما تكون الأفعى التي أودت بحياة كليوبترا هي أوكتافيوس نفسه!!
المصادر:
مصدر الصورة: