الفيزياء والفلك > علم الفلك
الأشعة الكونية قد تساعد في الكشف عن أسرار البرق
على الرغم من الجهود التي بذلها "بنجامين فرانكلين" في دراسة ظاهرة البرق، وما يُروى من إستعماله لطائرة ورقية مربوطة بسلك معدني رفيع أثناء جو عاصف، إلّا أن الجهود السابقة وضّحت فقط الطبيعة الكهربائية للبرق لكنها لم تفسر أسباب وآلية حدوث البرق، حيث بقيت تلك الظاهرة محاطة بقدرٍ كبيرٍ من الغموض، ولحل بعضاً من هذا الغموض قام الباحثون حالياً بتطوير أداة جديدة، وذلك باستخدام الأشعة الكونية، تلك الجسيمات التي تسافر عبر الفضاء ليضرب جزءاً منها غلافنا الجوي. يقول الباحثون أنهم سيتمكنون من خلال أداتهم الجديدة من إلقاء نظرة إلى داخل العواصف الرعدية لقياس شدة حقولها الكهربائية مما سيساعدهم في تحديد الظروف التي تؤدي إلى حدوث هذه الانفجارات الكهربائية (أي البرق)، هذا التطور سيساعد العلماء على التنبؤ بشكل أكثر دقة بالمكان و الموعد الذي سيضرب فيه البرق وبالتالي إبعاد الناس عن الأذى في الوقت المناسب.
إن فهمنا للبرق متواضع جداً و هذا يعود بشكل جزئي إلى حقيقة أن قياس الحقول الكهربائية داخل العواصف الرعدية يُعتبر تحدياً، يُذكر أن العلماء أجروا سابقاً قياسات بإرسال بالونات أو صواريخ صغيرة ولكن مثل أدوات القياس تلك، يمكن أن تؤدي إلى تغيير البيئة الكهربائية ومن المحتمل أن تُخفي النشاط الكهربائي الطبيعي الذي نسعى لقياسه، ومع ذلك فإن تلك القياسات فشلت في تفسير أصل البرق ومُسبباته، حيث لم تستطع إيجاد الحقول القوية الكافية لإحداث البرق، فمن الممكن أن تكون المنطقة المشحونة (أي حيث تكون شدة الحقل الكهربائي كبيرة) متمركزة في مناطق صغيرة، أو من الممكن وجود عامل آخر ضروري لإحداث البرق.
الأشعة الكونية قد تساعد الباحثين على حل تلك المعضلة فعندما تصطدم هذه الأشعة بجزيئات الغلاف الجوي فإن هذا الاصطدام يولّد زخات من الجسيمات دون الذرية كالإلكترونات و البوزيترونات وجسيمات أخرى مشحونة، وخلال مسير هذه الجسيمات إلى الأرض فإن الحقل المغناطيسي للأرض يحني مسارات هذه الجسيمات مما يتسبب بإصدار هذه الجسيمات لأمواج راديوية. العلماء تمكنوا من مراقبة أنماط هذه الإشعاعات الراديوية باستخدام تلسكوب LOFER الراديوي في هولندا، ثم قارنوا تلك المشاهدات مع نموذج حاسوبي يُحاكي أنماط الأمواج الراديوية المُنتَجة بوساطة اصطدامات الأشعة الكونية، ووجد الباحثون أن هناك تطابق بنسبة كبيرة بين النموذج الحاسوبي وما رصده العلماء من خلال مشاهداتهم، لكن ذلك التطابق في القراءات يتزعزع بصورة كبيرة عند أخذها ضمن الطقس السيئ .
يقول "شالرت" الفلكي في جامعة Radboud (هولندا) و المؤلف الأول لهذه الدراسة :"في بعض الأحيان كانت تبدو الزخات الكونية غريبة وتصادف توقيت العواصف الرعدية مع حدوث هذا الاختلاف" وجد "شالرت" وزملاؤه أنه عند مرور زخات من الأشعة الكونية خلال عاصفة رعدية فإن شكل الأمواج الراديوية يكون شاذاً، وذلك بسبب الحقول الكهربائية القوية في العاصفة التي تتسبب في إنحناء مسار حركة الجسيمات المشحونة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تغيير قطبية الأمواج الراديوية أو تغيير اتجاه اهتزازاتها الكهرومغناطيسية.
وبإضافة الحقول الكهربائية إلى حساباتهم، استطاع العلماء تحديد نوع الحقول التي يجب تواجدها في السماء لإنتاج هذه النماذج من الأمواج الراديوية التي رصدوها على الأرض، ففي الحالة التي درسها العلماء بالتفصيل وجدوا أن العاصفة كانت مكونة من طبقتين، واحدة ترتفع بين 3-8 كيلومتر فوق سطح الأرض وبحقل كهربائي تبلغ شدته 50000 فولت بالمتر، والأخرى أخفض من الأولى وذات حقل كهربائي أضعف ويدفع الجسيمات بعكس الجهة التي يدفعها به الحقل العلوي، وبالرغم من أن النتائج لا تستطيع تفسير كيفية حدوث البرق، إلاّ أنها المرة الأولى التي يتم فيها دراسة عاصفة رعدية باستخدام الأشعة الكونية مما يشكل الخطوة الأولى نحو طريق تطوير تقنية تسمح بتحسين فهم العلماء للعواصف .
يقول الفيزيائي "جوزيف دواير"من جامعة “New Hampshire” بأن الحصول على طريقة لقياس الحقول الكهربائية عن بعد ومن الأرض يُعتبر أمراً مفيداً جداً، ويضيف بأنه لتحسين توقعاتنا حول مكان حدوث البرق فإننا نحتاج أولاً إلى فهم آلية حدوث البرق، وباستخدام هذه الطريقة فإننا سنتمكن أخيراً من إمساك البرق بالجرم المشهود منذ لحظة شروعه بالحدث، الأمر الذي قد يُساعد في حل خيوط اللغز الكامن وراء تشكلّهِ.
الآن خرج العلماء بعدد من التفسيرات الممكنة لآلية حدوث البرق، والتقنية الجديدة سوف تساعد بالتمييز بين صحة هذه الخيارات. إحدى تلك التفسيرات تقول بأن نثرات الجليد و الماء تتسبب في زيادة تركيز الحقول، خالقةً بذلك مناطق صغيرة قوية بما فيه الكفاية لإحداث شرارة البرق، تفسير آخر يقول بأن الأشعة الكونية نفسها من الممكن أن تُسبب البرق بفضل الجسميات المشحونة التي تنتجها عند اصطدامها بجزيئات الغلاف الجوي. حتى الآن لا يوجد دليل حاسم يدعم أياً من التفسيرات المطروحة ولكن التقنية الجديدة قد تحسم الأمر وتعطينا الإجابة النهائية .
يُضيف "دواير" بأن التقنية الجديدة لا تزال في مراحلها المبكرة، فحتى الآن لم تتم دراسة سوى عدد قليل من زخات الجسيمات، لذا فإن النتائج لم تتمكن بعد من إعادة صياغة أفكار جديدة عند العلماء حول العواصف الرعدية، لكن مع مزيد من البيانات والتحليلات سوف تكون تلك الأداة أقوى، أمّا العلماء العاملين على تلك التقنية فهم يستحقون كل التقدير لأنها المرة الأولى التي نحصل فيها على تقنية تدرس ظاهرة البرق بمثل هذا الوضوح.
المصدر:
Science| DOI: 10.1126/science.aab2538